الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (157) قوله تعالى: الذين يتبعون : في محله أوجه، أحدها: الجر نعتا لقوله "الذين يتقون" . الثاني: أنه بدل منه. الثالث: أنه منصوب على القطع. الرابع: أنه مرفوع على خبر ابتداء مضمر وهو معنى القطع أيضا. الخامس: أنه مبتدأ، وفي الخبر حينئذ وجهان، أحدهما: أنه الجملة الفعلية من قوله "يأمرهم بالمعروف" . والثاني: الجملة الاسمية من قوله أولئك هم المفلحون ذكر ذلك أبو البقاء، وفيه ضعف، بل منع، كيف يجعل "يأمرهم" خبرا وهو من تتمة وصف الرسول صلى الله عليه وسلم، أو على أنه معمول للوجدان عند بعضهم كما سيأتي التنبيه عليه، وكيف يجعل "أولئك هم المفلحون" خبرا لهذا الموصول، والموصول الثاني وهو قوله فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه يطلبه خبرا، لا يتبادر الذهن إلى غيره ولو تبادر لم يكن معتبرا.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: الأمي العامة على ضم الهمزة نسبة: إما إلى الأمة وهي أمة العرب، وذلك لأن العرب لا تحسب ولا تكتب، ومنه الحديث: "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب"، وإما نسبة إلى الأم وهو مصدر أم يؤم، أي: قصد [ ص: 479 ] يقصد، والمعنى على هذا: أن هذا النبي الكريم مقصود لكل أحد. وفيه نظر، لأنه كان ينبغي أن يقال: الأمي بفتح الهمزة. وقد يقال: إنه من تغيير النسب. وسيأتي أن هذا قراءة لبعضهم، وإما نسبة إلى أم القرى وهي مكة، وإما نسبة إلى الأم كأن الذي لا يقرأ ولا يكتب على حالة ولادته من أمه.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ يعقوب "الأمي" بفتح الهمزة، وخرجها بعضهم على أنه من تغيير النسب، كما قالوا في النسب إلى أمية: أموي. وخرجها بعضهم على أنها نسبة إلى الأم وهو القصد، أي: الذي هو على القصد والسداد، وقد تقدم ذكر ذلك أيضا في القراءة الشهيرة. فقد تحصل أن كلا من القراءتين يحتمل أن تكون مغيرة من الأخرى.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "تجدونه" الظاهر أن هذه متعدية لواحد لأنها اللقبة، والتقدير: تلقونه، أي تلقون اسمه ونعته مكتوبا، لأنه بمعنى وجدان الضالة فيكون "مكتوبا" حالا من الهاء في "تجدونه". وقال أبو علي: إنها متعدية لاثنين أولهما الهاء، والثاني "مكتوبا". قال: ولا بد من حذف هذا المضاف، أعني قوله "ذكره أو اسمه". قال سيبويه: تقول إذا نظرت في هذا الكتاب: هذا عمرو، وإنما المعنى: هذا اسم عمرو وهذا ذكر عمرو قال: "وهذا يجوز على سعة الكلام".

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: عندهم في التوراة هذا الظرف وعديله كلاهما متعلق بـ "تجدون"، ويجوز وهو الأظهر أن يتعلقا بـ "مكتوبا"، أي: كتب اسمه ونعته عندهم في توراتهم وإنجيلهم.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: يأمرهم فيه ستة أوجه، أحدها: أنه مستأنف، فلا محل له حينئذ [ ص: 480 ] وهو قول للزجاج. والثاني: أنه خبر لـ "الذين". قاله أبو البقاء، وقد ذكر، قلت: وقد ذكر ما فيه ثمة. الثالث: أنه منصوب على الحال من الهاء في "تجدونه" ولا بد من التجوز بها، ذلك بأن تجعل حالا مقدرة. وقد منع أبو علي أن تكون حالا من هذا الضمير قال: "لأن الضمير للاسم والذكر، والاسم والذكر لا يأمران" يعني أن الكلام على حذف مضاف كما مر، فإن تقديره: تجدون اسمه أو ذكره، والذكر والاسم لا يأمران، إنما يأمر المذكور والمسمى. الرابع: أنه حال من "النبي". الخامس: أنه حال من الضمير المستكن في "مكتوبا". السادس: أنه مفسر لـ "مكتوبا"، أي لما كتب، قاله الفارسي. قال: كما فسر قوله: " وعد الله الذين آمنوا " بقوله: " لهم مغفرة ورزق كريم " ، وكما فسر المثل في قوله تعالى: إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم بقوله خلقه من تراب .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الزجاج هنا: ويجوز أن يكون المعنى: يجدونه مكتوبا عندهم أنه يأمرهم بالمعروف، وعلى هذا يكون الأمر بالمعروف وما ذكر معه من صفته التي ذكرت في الكتابين. واستدرك أبو علي عليه هذه المقالة فقال: لا وجه لقوله "يجدونه مكتوبا عندهم أنه يأمرهم بالمعروف" إن كان يعني أن ذلك مراد، لأنه لا شيء يدل على حذفه، ولأنا لا نعلمهم أنهم صدقوا في شيء، وتفسير الآية أن وجدت فيها تتعدى لمفعولين. فذكر نحو ما قدمته عنه. [ ص: 481 ] قلت: وهذا الرد تحامل منه عليه، لأنه أراد تفسير المعنى وهو تفسير حسن.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: إصرهم قرأ ابن عامر: "آصارهم" بالجمع على صيغة أفعال، فانقلبت الهمزة التي هي فاء الكلمة ألفا لسبقها بمثلها، والباقون بالإفراد فهي جمع باعتبار متعلقاته وأنواعه، وهي كثيرة. ومن أفرد فلأنه اسم جنس. وقرأ بعضهم: "أصرهم" بفتح الهمزة، وبعضهم "أصرهم" بضمها. وقد تقدم تفسير هذه المادة في أواخر البقرة.

                                                                                                                                                                                                                                      والأغلال جمع غل، وهو هنا مثل لما كلفوه. وقد تقدم تفسير المادة أيضا في آل عمران: وما كان لنبي أن يغل ، وكذا تقدم تفسير التعزير في المائدة.

                                                                                                                                                                                                                                      والعامة على تشديد "وعزروه". وقرأ الجحدري وعيسى بن عمر وسليمان التيمي بتخفيفها، وجعفر بن محمد: "وعززوه" بزايين معجمتين.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: أنزل معه قال الزمخشري: فإن قلت: ما معنى "أنزل معه"، وإنما أنزل مع جبريل؟ قلت: معناه أنزل مع نبوته; لأن [ ص: 482 ] استنباءه كان مصحوبا بالقرآن مشفوعا به.

                                                                                                                                                                                                                                      ويجوز أن يتعلق بـ "اتبعوا"، أي: واتبعوا القرآن المنزل مع اتباع النبي وبالعمل بسنته وبما أمر به ونهى عنه، أو واتبعوا القرآن كما اتبعه مصاحبين له في اتباعه، يعني بهذا الوجه الأخير أنه حال من فاعل "اتبعوا". وقيل:"مع" بمعنى "على"، أي: أنزل عليه. وجوز الشيخ أن يكون "معه" ظرفا في موضع الحال. قال: والعامل فيها محذوف تقديره: أنزل كائنا معه، وهي حال مقدرة كقولهم: "مررت برجل معه صقر صائدا به غدا" فحالة الإنزال لم يكن معه، لكنه صار معه بعد، كما أن الصيد لم يكن وقت المرور.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية