الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (145) قوله تعالى: وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة : "أل" في الألواح يجوز أن تكون لتعريف الماهية وأن تكون للعهد، لأنه يروى في القصة أنه هو الذي قطعها وشققها. وقال ابن عطية: "أل" عوض من الضمير، تقديره: "في ألواحه" وهذا كقوله: فإن الجنة هي المأوى ، أي: مأواه. أما كون "أل" عوضا من الضمير فلا يعرفه البصريون. وأما قوله فإن الجنة هي المأوى فإنا نحتاج فيه إلى رابط يربط بين الاسم والخبر، فالكوفيون يجعلون أل عوضا من الضمير، والبصريون يقدرونه، أي: هي المأوى له، وأما في هذه الآية فلا ضرورة تدعو إلى ذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي مفعول "كتبنا" ثلاثة أوجه، أحدها: أنه "موعظة"، أي: كتبنا له موعظة وتفصيلا. و "من كل شيء" على هذا فيه وجهان، أحدهما: أنه متعلق بـ "كتبنا"، والثاني: أنه متعلق بمحذوف لأنه في الأصل صفة لـ "موعظة"، فلما قدم عليها نصب حالا، و "لكل شيء" صفة لـ "تفصيلا". والثاني: أنه "من كل شيء". قال الزمخشري: "من كل شيء" في محل النصب مفعول "كتبنا"، و "موعظة وتفصيلا" بدل منه، والمعنى: كتبنا له كل شيء كان بنو إسرائيل يحتاجون إليه في دينهم من المواعظ وتفصيل الأحكام. الثالث: أن المفعول محل المجرور. قال الشيخ بعدما حكى الوجه الأول عن الحوفي والثاني عن الزمخشري: ويحتمل عندي وجه ثالث وهو أن يكون مفعول "كتبنا" موضع المجرور كما تقول: "أكلت من الرغيف" [ ص: 453 ] و "من" للتبعيض، أي: كتبنا له أشياء من كل شيء، وانتصب "موعظة وتفصيلا" على المفعول من أجله، أي: كتبنا له تلك الأشياء للاتعاظ وللتفصيل. قلت: والظاهر أن هذا الوجه هو الذي أراده الزمخشري فليس وجها ثالثا.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: "بقوة" حال: إما من الفاعل، أي: ملتبسا بقوة، وإما من المفعول، أي: ملتبسة بقوة، أي: بقوة دلائلها وبراهينها، والأول أوضح. والجملة من قوله "فخذها" يحتمل أن تكون بدلا من قوله "فخذ ما آتيتك" وعاد الضمير على معنى "ما" لا على لفظها. ويحتمل أن تكون منصوبة بقول مضمر، ذلك القول منسوق على جملة "كتبنا" والتقدير: وكتبنا فقلنا: خذ ما. والضمير على هذا عائد على الألواح، أو على التوراة، أو على الرسالات، أو على كل شيء لأنه في معنى الأشياء.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: يأخذوا الظاهر أنه مجزوم جوابا للأمر في قوله "وأمر" . ولابد من تأويله لأنه لا يلزم من أمره إياهم بذلك أن يأخذوا، بدليل عصيان بعضهم له في ذلك، فإن شرط ذلك انحلال الجملتين إلى شرط وجزاء. وقيل: انجزم على إضمار اللام تقديره: ليأخذوا، كقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      2289 - محمد تفد نفسك كل نفس إذا ما خفت من أمر تبالا



                                                                                                                                                                                                                                      وهو مذهب الكسائي، وابن مالك يرى جوازه إذا كان في جواب "قل"، وهنا لم يذكر "قل" ولكن ذكر شيء بمعناه; لأن معنى "وأمر" و "قل" واحد. [ ص: 454 ] قوله: بأحسنها يجوز أن يكون حالا كما تقدم في "بقوة" وعلى هذا فمفعول "يأخذوا" محذوف تقديره: يأخذوا أنفسهم. ويجوز أن تكون الباء زائدة، و "أحسنها" مفعول به والتقدير: يأخذوا أحسنها كقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      2290 - . . . . . . . . . . . . . . . . .     سود المحاجر لا يقرأن بالسور



                                                                                                                                                                                                                                      وقد تقدم ذلك محققا في قوله تعالى: ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة . و "أحسن" يجوز أن تكون للتفضيل على بابها، وأن لا تكون بل بمعنى حسنة كقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      2291 - إن الذي سمك السماء بنى لنا     بيتا دعائمه أعز وأطول



                                                                                                                                                                                                                                      أي: عزيزة طويلة.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: سأريكم دار الفاسقين جوزوا في الرؤية هنا أن تكون بصرية وهو الظاهر فتتعدى لاثنين، أحدهما: ضمير المخاطبين، والثاني "دار". والثاني: أنها قلبية وهو منقول عن ابن زيد وغيره، والمعنى: سأعلمكم سير الأولين وما حل بهم من النكال. وقيل: دار الفاسقين: ما دار إليه أمرهم، وذلك لا يعلم إلا بالإخبار والإعلام. قال ابن عطية: - معترضا على هذا الوجه- ولو كان من رؤية القلب لتعدى بالهمزة إلى ثلاثة مفعولين. ولو قال قائل: المفعول الثالث يتضمنه المعنى فهو مقدر، أي: مذمومة أو خربة أو مسعرة على قول من قال إنها جهنم قيل له: لا يجوز حذف هذا المفعول [ ص: 455 ] ولا الاقتصار دونه لأنها داخلة على الابتداء والخبر، ولو جوز لكان على قبح في اللسان لا يليق بكتاب الله تعالى.

                                                                                                                                                                                                                                      قال الشيخ: وحذف المفعول الثالث في باب أعلم لدلالة المعنى عليه جائز فيجوز في جواب: هل أعلمت زيدا عمرا منطلقا؟ أعلمت زيدا عمرا، وتحذف "منطلقا" لدلالة الكلام السابق عليه. قلت: هذا مسلم لكن أين الدليل عليه في الكلام كما في المثال الذي أبرزه الشيخ؟ ثم قال: "وأما تعليله بأنها داخلة على المبتدأ والخبر لا يدل على المنع، لأن خبر المبتدأ يجوز حذفه اختصارا، والثاني والثالث في باب "أعلم" يجوز حذف كل منهما اختصارا". قلت: حذف الاختصار لدليل، ولا دليل هنا. ثم قال: وفي قوله لأنها أي "سأريكم" داخلة على المبتدأ والخبر فيه تجوز، ويعني أنها قبل النقل بالهمزة داخلة على المبتدأ والخبر.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ الحسن البصري: "سأوريكم" بواو خالصة بعد الهمزة وفيها تخريجان، أحدهما قاله الزمخشري: وهي لغة فاشية بالحجاز يقال: أورني كذا وأوريته، فوجهه أن يكون من أوريت الزند فإن المعنى: بينه لي وأنره لأستبينه. والثاني: ذكره ابن جني وهو أنه على الإشباع فيتولد منها الواو قال: "وناسب هذا كونه موضع تهديد ووعيد فاحتمل الإتيان بالواو". قلت: وهذا كقول الآخر: [ ص: 456 ]

                                                                                                                                                                                                                                      2292 - الله يعلم أنا في تلفتنا     يوم اللقاء إلى أحبابنا صور
                                                                                                                                                                                                                                      وأنني حيثما يثني الهوى بصري     من حيث ما سلكوا أدنو فأنظور



                                                                                                                                                                                                                                      لكن الإشباع بابه الضرورة عند بعضهم. وقرأ ابن عباس وقسامة ابن زيد: "سأورثكم". قال الزمخشري: وهي قراءة حسنة يصححها قوله تعالى وأورثنا القوم .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية