الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (187) قوله تعالى: أيان مرساها : فيه وجهان أحدهما: أن "أيان" خبر مقدم، و "مرساها" مبتدأ مؤخر. والثاني: أن "أيان" منصوب [ ص: 529 ] على الظرف بفعل مضمر، ذلك الفعل رافع لـ "مرساها" بالفاعلية، وهو مذهب أبي العباس. وهذه الجملة في محل نصب لأنها بدل من "الساعة" بدل اشتمال، وحينئذ كان ينبغي ألا تكون في محل جر لأنها بدل من مجرور. وقد صرح بذلك أبو البقاء فقال: "والجملة في موضع جر بدلا من "الساعة" تقديره: يسألونك عن زمان حلول الساعة"، إلا أنه منع من كونها مجرورة المحل أن البدل في نية تكرار العامل، والعامل هو "يسألونك" والسؤال يعلق بالاستفهام وهو متعد، يعني فتكون الجملة الاستفهامية في محل نصب بعد إسقاط الخافض كأنه قيل: يسألونك أيان مرسى الساعة، فهو في الحقيقة بدل من موضع "عن الساعة" لأن موضع المجرور نصب، ونظيره في البدل على أحسن الوجوه فيه: عرفت زيدا أبو من هو.

                                                                                                                                                                                                                                      و "أيان" ظرف زمان مبني لتضمنه معنى الاستفهام ولا يتصرف، ويليه المبتدأ والفعل المضارع دون الماضي، بخلاف "متى" فإنها يليها النوعان. وأكثر ما تكون "أيان" استفهاما كقول الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      2352 - أيان تقضي حاجتي أيانا أما ترى لفعلها إبانا



                                                                                                                                                                                                                                      وقد تأتي شرطية جازمة لفعلين. قال الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      2353 - أيان نؤمنك تؤمن غيرنا وإذا     لم تدرك الأمن منا لم تزل حذرا



                                                                                                                                                                                                                                      وقال آخر:


                                                                                                                                                                                                                                      2354 - إذا النعجة العجفاء باتت بقفرة     فأيان ما تعدل بها الريح تنزل

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 530 ] والفصيح فتح همزتها وهي قراءة العامة. وقرأ السلمي بكسرها وهي لغة سليم. واختلف النحويون في "أيان" : هل هي بسيطة أم مركبة؟ فذهب بعضهم الى أن أصلها: أي أوان فحذفت الهمزة على غير قياس ولم يعوض منها شيء، وقلبت الواو ياء على غير قياس، فاجتمع ثلاث ياءات فاستثقل ذلك فحذفت إحداهن، وبنيت الكلمة على الفتح فصارت أيان. واختلفوا فيها أيضا: هل هي مشتقة أم لا؟ فذهب أبو الفتح إلى أنها مشتقة من أويت إليه، لأن البعض آوى إلى الكل، والمعنى: أي وقت وأي فعل، ووزنه فعلان أو فعلان بحسب اللغتين، ومنع أن يكون وزنه فعالا مشتقة من "أين"، لأن أين ظرف مكان وأيان ظرف زمان.

                                                                                                                                                                                                                                      ومرساها يجوز أن يكون اسم مصدر وأن يكون اسم زمان، قال الزمخشري: "مرساها" إرساؤها أو وقت إرسائها، أي: إثباتها وإقرارها. قال الشيخ" وتقديره: وقت إرسائها ليس بجيد، لأن "أيان" استفهام عن الزمان فلا يصح أن يكون خبرا عن الوقت إلا بمجاز لأنه يكون التقدير: في أي وقت وقت إرسائها". وهو كلام حسن، ويقال: رسا يرسو: ثبت، ولا يقال إلا في الشيء الثقيل نحو: رست السفينة ترسو، وأرسيتها.

                                                                                                                                                                                                                                      قوله: علمها مصدر مضاف للمفعول والظرف خبره. وقوله: "في السماوات" يجوز فيها وجهان، أحدهما: أن تكون "في" بمعنى على، أي: على أهل السماوات أو هي ثقيلة على نفس السماوات والأرض لانشقاق هذه وزلزال ذي. والثاني: أنها على بابها من الظرفية، والمعنى: حصل ثقلها وهو شدتها أو المبالغة في إخفائها في هذين الظرفين. [ ص: 531 ] قوله: كأنك حفي هذه الجملة التشبيهية في محل نصب على الحال من مفعول "يسألونك". وفي "عنها" وجهان، أحدهما: أنها متعلقة بيسألونك وكأنك حفي معترض، وصلتها محذوفة تقديره: حفي بها.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال أبو البقاء: في الكلام تقديم وتأخير، ولا حاجة إلى ذلك لأن هذه كلها متعلقات للفعل فإن قوله: "كأنك حفي" حال كما تقدم. والثاني أن "عن" بمعنى الباء كما أن الباء بمعنى عن كقوله: فاسأل به خبيرا ، ويوم تشقق السماء بالغمام لأن حفي لا يتعدى بـ "عن" بل بالباء كقوله: كان بي حفيا ويضمن معنى شيء يتعدى بـ "عن"، أي: كأنك كاشف بحفاوتك عنها.

                                                                                                                                                                                                                                      والحفي: المستقصي عن الشيء، المهتبل به، المعتني بأمره قال:


                                                                                                                                                                                                                                      2355 - سؤال حفي عن أخيه كأنه     بذكرته وسنان أو متواسن



                                                                                                                                                                                                                                      وقال آخر:


                                                                                                                                                                                                                                      2356 - فلما التقينا بين السيف بيننا     لسائلة عنا حفي سؤالها

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 532 ] وقال الأعشى:


                                                                                                                                                                                                                                      2357 - فإن تسألي عني فيا رب سائل     حفي عن الأعشى به حيث أصعدا



                                                                                                                                                                                                                                      والإحفاء: الاستقصاء ومنه "إحفاء الشوارب" والحافي: لأنه حفيت قدمه في استقصاء السير. والحفاوة: البر واللطف.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ عبد الله "حفي بها" وهي تدل لمن ادعى أن "عن" بمعنى الباء. وحفي فعيل بمعنى مفعول أي: محفو. وقيل: بمعنى فاعل أي: كأنك مبالغ في السؤال عنها ومتطلع إلى علم مجيئها.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية