الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        المسألة الثالثة: إذا أوصى بالاستعمال فقط:

        ومثاله: إذا أوصى شخص لآخر بسكنى داره أو خدمة عبده، ونحو ذلك، ففي هذه الحالة هل يجوز له أن يتصرف بالمنافع بالاستغلال، وذلك بأن يؤجر مثلا، أم لا يجوز له ذلك ؟.

        اختلف الفقهاء -رحمهم الله- في هذا التصرف من الموصى له على قولين:

        القول الأول: يجوز للموصى له بسكنى الدار مثلا أن يتصرف في هذه المنافع بالاستغلال.

        وقال بذلك المالكية ، والشافعية ، والحنابلة .

        قال الباجي من المالكية ما نصه: « ... فمن أوصى بخدمة عبد، أو سكنى دار جاز له أن يكري ذلك، إلا أن يعلم أن الموصي أراد أن يسكنها بنفسه خلافا لأبي حنيفة » .

        والدليل على ما نقوله: « إن هذه منافع فصح بدلها، فجاز لمن ملكها أخذ عوض عنها كالمستأجر... » .

        وجاء في نهاية المحتاج ما نصه: « ويملك الموصى له بالمنفعة... ، إن قامت قرينة على أن المراد بها مطلق المنفعة، أو اطرد العرف بذلك...، [ ص: 107 ] فليست إباحة، ولا عارية للزومها بالقبول، ومن ثم جاز له أن يؤجر، ويعير ويوصي بها... » .

        وقال ابن قدامة: « وإن أراد الموصى له إجارة العبد، أو الدار في المدة التي أوصي بها بنفعها جاز... » .

        ثم قال بعد أن ذكر المخالف في ذلك، وهو أبو حنيفة: « ولنا: أنها منفعة يملكها ملكا تاما ، فملك أخذ العوض عنها بالأعيان، كما لو ملكها بالإجارة... »

        وظاهر كلامهم: أنه يجوز له الاستغلال سواء كانت الوصية مقيدة بمدة معينة ، أو مؤبدة.

        القول الثاني: لا يجوز للموصى له بسكنى الدار، أو خدمة العبد أن يستغل تلك المنافع، بل ينتفع بنفسه فقط.

        وقال بذلك الحنفية .

        قال الكاساني: « وليس للموصى له بالخدمة والسكنى أن يؤجر العبد، أو الدار من غيره عندنا، وعند الشافعي له ذلك... » .

        ثم ذكر الدليل على ذلك بقوله: « ولنا أن الثابت للموصى له بالسكنى والخدمة ملك المنفعة بغير عوض، فلا يحتمل التمليك بعوض، كالملك الثابت للمستعير بالإعارة، حتى لا يملك الإجارة كذا هنا... » .

        ونوقش هذا الاستدلال: بأن العارية إباحة انتفاع، والوصية تمليك منفعة فافترقا.

        [ ص: 108 ] وقالوا أيضا: ولأن التمليك بعوض أقوى وألزم، والأضعف لا يتناول الأقوى.

        الترجيح: ما ذهب إليه المالكية ، والشافعية ، والحنابلة القائلون بجواز تصرف الموصى له بهذه المنافع بالاستغلال; وذلك لما يلي:

        لأن الحنفية إنما منعوا الموصى له من الاستغلال; لكونه ملك هذه المنافع بغير عوض، فيقال: إن الملك لا يختلف سواء نتج عن عوض أو غير عوض، فالآثار المترتبة على ذلك واحدة، فما دام أنه ملك هذه المنافع جاز له أن يتصرف فيها، بناء على هذا الملك بغض النظر عن ثبوته بعوض، أو غير عوض، والله أعلم.

        وأيضا: قد لا يتهيأ للموصى له السكن لكونها في بلد بعيد، أو غير بلده، أو مكان ناء، أو لضيقه ، إلى غير ذلك من الأسباب، وفي هذا تضييع للوصية وحرمان للموصى له.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية