الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        وقال شيخ الإسلام: « فإن تابت هذه البغي وهذا الخمار وكانوا فقراء جاز أن يصرف إليهم من هذا المال مقدار حاجتهم، فإن كان يقدر يتجر أو يعمل صنعة كالنسج والغزل أعطي ما يكون له رأس مال، وإن اقترضوا منه شيئا ليكتسبوا به ولم يردوا عوض القرض كان أحسن » .

        فإن لم يتب من كسبه محرما، فلا يخلو من فرعين:

        الفرع الأول: أن يكون جميع مال الموصي محرما فلا تصح وصيته ; لما تقدم من أنه يشترط أن تكون الهبة مالا شرعيا.

        الفرع الثاني: أن يكون ماله مختلطا من الحلال والحرام:

        فاختلف العلماء في قبول تبرعه، وعلى هذا صحة وصيته على أقوال أربعة: القول الأول: أنه يكره قبول تبرعه قل الحرام أو كثر.

        وبه قال بعض المالكية ، وهو قول الشافعية ، وهو مذهب الحنابلة .

        القول الثاني: أنه يجوز قبول تبرعه إذا غلب الحلال على الحرام، إذا لم يتيقن أن ما قدم له من عين الحرام.

        وبه قال ابن القاسم من المالكية ، وقول عند الحنابلة .

        القول الثالث: يجوز قبول تبرعه، قل الحرام أو كثر.

        [ ص: 52 ] وبه قال الشوكاني.

        القول الرابع: يحرم قبول تبرعه مطلقا، قل الحرام أو كثر.

        وبه قال بعض المالكية ، وقول عند الحنابلة .

        الأدلة:

        أدلة القول الأول:

        1 - ما رواه البخاري ومسلم من طريق عامر قال: سمعت النعمان بن بشير -رضي الله عنه- يقول: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: الحلال بين، والحرام بين وبينهما مشبهات لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى المشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات: كراع يرعى حول الحمى، يوشك أن يواقعه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا إن حمى الله في أرضه محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة: إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب .

        وجه الدلالة: أنه إذا وقع الاشتباه في هذا المتبرع به، فالأولى للمسلم أن يستبرئ دينه وعرضه ويتركه مخافة أن يكون حراما، فبما أن الحديث يطلب الاستبراء دون النهي الدال على التحريم كان القول بالكراهة أقرب.

        2 - أن الأصل في هذا الشيء المتبرع به الإباحة، والحرام محتمل، ولا يثبت التحريم بمجرد الاحتمال.

        3 - أن الحرام لما اختلط بماله صار شائعا فيه ، فإذا قبل تبرعه كان ذلك من المتشابه الممنوع منه على وجه التوقي كان مكروها.

        [ ص: 53 ] دليل القول الثاني:

        استدل لهم بقول الله عز وجل قال: يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما .

        وجه الدلالة: أن الخمر والميسر حرما مع أن فيهما منافع للناس، وسبب التحريم أن إثمهما أكبر من نفعهما، كذلك هنا لما غلب الحرام حرم قبول التبرع، أما إذا غلب الحلال حل قبول التبرع اعتبارا بالغالب.

        ونوقش هذا الاستدلال: بأنه يعسر ضبط القليل والكثير.

        دليل القول الثالث:

        (206 ) 1 - ما رواه البخاري ومسلم من طريق شعبة، عن هشام بن زيد، عن أنس بن مالك به: أن يهودية أتت النبي -صلى الله عليه وسلم- بشاة مسمومة فأكل منها ، فجيء بها ، فقيل: ألا نقتلها؟ قال: لا، فما زلت أعرفها في لهوات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- .

        2 - أن الصحابة رضي الله عنهم ، بعد الخلافة الراشدة يأخذون العطايا ممن جاءت بعد الخلفاء رضي الله عنهم ، ممن تولى أمر المسلمين مع تلبسهم بشيء مما لا يبيحه الشرع.

        دليل القول الرابع:

        أن الحرام لما اختلط بماله صار شائعا فيه ، فإذا عامله في شيء منه فقد دخل في جزء من الحرام.

        [ ص: 54 ] ونوقش من وجهين: الأول: أنه مخالف لما تقدم عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من قبول هدايا الكفار.

        الثاني: عدم التسليم، فإنه لا يتيقن أنما أخذه من المال الحرام، وأيضا هو يوقع في الحرج والمشقة.

        الترجيح:

        الراجح - والله أعلم - جواز قبول تبرع من اختلط ماله بالمال الحرام، وفي الكراهة تردد، والله أعلم، وعلى هذا تصح وصيته.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية