الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        المسألة الثانية: أن لا يجيز الورثة الوصايا:

        إذا كان الموصى به أكثر من الثلث - سواء كان أكثر من التركة أو أقل - ولم يجز الورثة الوصايا لم يخل حال الموصى لهم من أمرين:

        الأمر الأول: أن لا يكون في الموصى لهم من تجاوز وصيته الثلث.

        وذلك: كالوصية بثلث وربع وسدس، أو الوصية بثلث وثلث وربع وسدس.

        وهنا ترد الوصايا إلى الثلث، وتبطل فيما زاد على ذلك، ويقسم الثلث بين الموصى لهم على قدر سهامهم، وذلك باتفاق الأئمة الأربعة; لأن الثلث يضيق عن حقوقهم، فيقسم بينهم على قدرها، كما في أصحاب الديون.

        [ ص: 329 ] لكن عند الحنفية : إن مع الوصايا أحد الأشياء الثلاثة: وهي الإعتاق المنجز في المرض، أو المعلق بالموت، أو البيع بالمحاباة بما لا يتغابن به الناس في المرض، فيقدم صاحبه على غيره، كوجود المرجح.

        فالإعتاق المنجز والمعلق بالموت لا يحتمل الفسخ، والمحاباة تستحق بعقد الضمان، وهو البيع; إذ هو عقد معاوضة، فكان البيع مضمونا بالثمن، والوصية تبرع، فكانت المحاباة أولى بالتقديم.

        الأمر الثاني: أن يكون في الموصى لهم من تجاوز وصيته الثلث.

        وذلك كالوصية بالنصف والربع، أو الوصية بجميع المال وبالثلث، وهنا ترد الوصايا إلى الثلث، وتبطل فيما زاد على ذلك باتفاق المذاهب الأربعة.

        ثم اختلف الفقهاء -رحمهم الله- في كيفية تقسيم الثلث بين الموصى لهم على قولين:

        القول الأول: أن الثلث يقسم بين الموصى لهم على قدر أنصبائهم.

        وهو قول أبي يوسف ومحمد بن الحسن من الحنفية ، وقول المالكية ، والشافعية ، والحنابلة .

        [ ص: 330 ] وهو قول الحسن، والنخعي، والثوري، وإسحاق.

        القول الثاني: أن الثلث يقسم بين الموصى لهم بالتسوية.

        وهو قول الإمام أبي حنيفة.

        واستثنى أبو حنيفة خمس صور:

        الصورة الأولى، والثانية: العتق في المرض، وفي الوصية بالعتق في المرض.

        صورة ذلك: إذا كان له عبدان لا مال له غيرهما أوصى بعتقهما، وقيمة أحدهما ألف، وقيمة الآخر ألفان، ولم تجز الورثة العتق بأكثر من الثلث، وثلث ماله ألف درهم، فالألف بينهما على قدر وصيتهما، ثلثا الألف للذي قيمته ألفان، والثلث للذي قيمته ألف، فيعتق منهما الثلث ويسعيا بما بقي للورثة.

        الصورة الثالثة، والرابعة: المحاباة في المرض، وفي الوصية.

        كأن يوصي شخص بأن تباع سيارته التي تساوي قيمتها ثلاثة آلاف بألف، والسيارة التي تساوي قيمتها ستة آلاف بألفين، علما بأنه لا مال له سواهما، فهو يريد الوصية بفرق السعرين فتقسم الثلث وهو الثلاثة آلاف بينهما أثلاثا، ثلثه للأول وثلثاه للثاني.

        الصورة الخامسة: في الوصية بالدراهم المرسلة.

        [ ص: 331 ] كأن يوصي لشخص بألف ريال ولآخر بألفي ريال، وتركته كلها ثلاثة آلاف ريال، ولم يجز ذلك الورثة، فحينئذ يقسم الثلث بينهم بحسب أسهمهم، للأول ثلث الثلث، وللآخر ثلثا الثلث.

        وفي هذه الصور الخمس يتوافق رأي أبي حنيفة مع رأي الصاحبين.

        الأدلة:

        أدلة القول الأول:

        أدلة القول بقسمة الثلث بين الموصى لهم على قدر أنصبائهم ما يأتي:

        1 - أن الموصي فاضل بينهم في الوصية، فوجبت المفاضلة بينهم في حال الرد، قياسا على ما إذا لم يكن فيهم من تجاوز وصيته الثلث.

        2 - أن ما قسم على التفاضل عند اتساع المال، قسم على التفاضل عند ضيق المال كالمواريث، والمال بين الغرماء.

        3 - أن هذه الوصايا « لو كانت بالثلث فما دون وقسمت لقسمت على التفضيل، فإذا كانت أكثر من الثلث قسمت على التفضيل » كذلك.

        4 - القياس على الوصايا المرسلة، فإنها تقسم عند عدم إجازة الورثة على التفضيل، فكذلك إذا كانت الوصايا مقيدة بنسبة.

        5 - أن الموصي قصد شيئين: الاستحقاق والتفضيل، وامتنع الاستحقاق [ ص: 332 ] لحق الورثة; لما فيه من الإضرار بهم، ولا مانع من التفضيل; إذ لا ضرر فيه على الورثة، فيثبت.

        6 - أن الميت ما أراد قط إلا المفاضلة بينهما، وإلا فما فائدة إيصائه لهذا بالنصف، ولهذا بالثلث؟.

        دليل القول الثاني: دليل القول بقسمة الثلث بين الموصى لهم بالسوية:

        أن الموصي قصد شيئين: الاستحقاق على الورثة فيما إذا زاد على الثلث، وتفضيل بعض أهل الوصايا على بعض، والثاني ثبت في ضمن الأول، ولما بطل الأول لحق الورثة وعدم إجازتهم، بطل ما في ضمنه وهو التفضيل، فصار كأنه أوصى لكل منهما بالثلث، فينصف الثلث بينهما، كما لو أوصى لكل منهما به حقيقة.

        ونوقش من وجهين:

        الوجه الأول: أن بطلان أحدهما ليس موجبا لبطلان الآخر، ألا ترى أن كل النصف بعد الثلث زيادة على الثلث، ولو لزم ما قالوا لبطلت وصية صاحب النصف بأسرها، فلما لم تبطل بالرد إلى الثلث لم يبطل حكم التفضيل بالرد إلى الثلث.

        الوجه الثاني: أن الوارث « إذا رد الوصية فيما زاد على الثلث لم تبطل الوصية في ثلث المال بالإجماع، وإنما تبطل فيما زاد على الثلث لحق [ ص: 333 ] الورثة، فبقيت الوصية بالثلث صحيحة، وإذا صحت صحت المفاضلة فيه فيما بين الموصى لهما كعول الفرائض كما تقدم » .

        الترجيح:

        الراجح - والله أعلم - القول الأول، وهو قسمة الثلث بين الموصى لهم على قدر سهامهم; لقوة الأدلة التي استدلوا بها، وسلامتها من الاعتراض، مع ضعف دليل المخالف; لما ورد عليه من المناقشة.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية