الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        [ ص: 274 ] المبحث الثالث عشر

        مصرف الوصية للجار

        اختلف العلماء في حد الجار الذي تصرف له الوصية على أقوال: القول الأول: أن حد الجوار أربعون دارا من كل جانب.

        وهو الصحيح عند الشافعية ، والمنصوص عليه في مذهب الحنابلة وعليه أكثر الأصحاب، وقال به الحسن ، والزهري، والأوزاعي.

        القول الثاني: الجار الملاصق فقط.

        قال به أبو حنيفة، وزفر، وبه قال المالكية ، إلا أنهم زادوا في حد الجوار فقالوا: ما واجه الدار فهو جار أيضا ، وهو قول الشافعية كما قال النووي.

        [ ص: 275 ] القول الثالث: الجار: هو الملاصق وغيره ممن يجمعهم المسجد إذا كانوا أهل محلة واحدة.

        وبه قال القاضي أبو يوسف، ومحمد بن الحسن من الحنفية ، وهو قول عند المالكية .

        وقد فصل في هذا القول: فقيل بأنه من يسمع النداء.

        وقيل: إن من يسمع الإقامة فهو جار لذلك المسجد.

        وقيل: من صلى معك صلاة الصبح فهو جار.

        القول الرابع: أن من ساكن غيره في محلة أو مدينة فهو جار.

        القول الخامس: أن جيران الإنسان قبيلته، وقيل الأفخاذ.

        القول السادس: أن الجار هو من ليس بينك وبينه درب يغلق ، وقيل: [ ص: 276 ] الجيران هم أهل الزقاق غير النافذ.

        القول السابع: الجار: الدار والداران، وهو مروي عن قتادة.

        ولم أر للأقوال الثلاثة الأخيرة دليلا فيما اطلعت عليه.

        القول الثامن: الجار هو من قاربت داره دار جاره، ويرجع في ذلك إلى العرف، وهو اختيار ابن قدامة من الحنابلة ، وصوبه في (الإنصاف ) .

        الأدلة:

        أدلة القول الأول: (أربعون دارا ) :

        (229 ) 1 - ما رواه أبو يعلى من طريق عبد السلام بن أبي الجنوب، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: حق الجوار أربعون دارا هكذا هكذا وهكذا، يمينا وشمالا، وقداما وخلفا .

        [ ص: 277 ] وجه الاستدلال: أن هذا الحديث نص على أن حد الجوار أربعون دارا من كل جانب، والنص لا يجوز العدول عنه.

        ونوقش هذا الاستدلال: بأن الحديث لو صح لكان فيصلا في المسألة، ولما دام كذلك فيسقط به الاستدلال.

        (230 ) 2 - ما رواه الطبراني في الكبير من طريق يوسف بن السفر، عن الأوزاعي، عن يونس بن يزيد، عن الزهري ، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن أبيه قال: أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- رجل فقال: يا رسول الله إني نزلت في محلة بني فلان، وإن أشدهم لي أذى أقدمهم لي جوارا، فبعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبا بكر وعمر وعليا يأتون المسجد فيقومون على بابه، فيصيحون ألا إن أربعين دارا جار، ولا يدخل الجنة من خاف جاره بوائقه .

        وجه الاستدلال: أن الحديث نص على أن الجيرة أربعون دارا.

        ونوقش الاستدلال بهذا الحديث: هذا الحديث كالحديث السابق لا تنهض به حجة لضعفه.

        [ ص: 278 ] واستدلوا على القول الثاني بما يلي:

        (231 ) 1 - ما رواه البخاري من طريق عمرو بن الشريد، عن أبي رافع -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: الجار أحق بسقبه .

        وجه الاستدلال بهذا الحديث: أنه قد جاء لبيان حق الشفعة، وهي لا تثبت لأحد من الجيران إلا للملاصق، فدل على أنه هو المقصود بالجار.

        وأجيب عن هذا الاستدلال: بأنه قد ورد تفسير (الجار) هنا بالشريك، وبالتالي فلا يختص الجار في هذا الحديث بالملاصق.

        2 - أن انصراف الجار إلى الملاصق فقط هو مقتضى القياس، فتحمل عليه النصوص الواردة في الموضوع، فإن الجار من المجاورة وهي الملاصقة حقيقة، والاتصال بين الملكين بلا حائل بينهما، فأما مع الحائل فلا يكون مجاورا حقيقة، ولهذا ثبتت الشفعة للجار الملاصق دون غيره; لأنه ليس بجار حقيقة.

        وأجيب: بأن استعمال الجار لغير الملاصق ثابت في النصوص الشرعية، وبالتالي فلا يختص معنى الجار بالملاصقة.

        وأما قولهم عن الشفعة تثبت للجار الملاصق دون غيره، فهذه مسألة خلافية.

        3 - أنه يترتب على الجوار حقوق يلزم أداؤها للجار، ولما كان [ ص: 279 ] متعذرا صرفها لكل من يطلق عليه اسم الجار لغة، فإن مسمى الجار الشرعي يصرف إلى أخص الخصوص، وهو الملاصق.

        وقد أجيب عن هذا الدليل: بأنه لا يلزم من تعذر صرفه إلى الجميع، تعذر صرفه إلى بعض الجيران غير الملاصقين كأهل مسجد المحلة الواحدة، فإنهم جيران للمسجد وإن لم يكونوا ملاصقين له.

        دليل القول الثالث:

        (232 ) 1 - ما رواه الدارقطني من طريق سليمان بن داود اليمامي، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد .

        [ ص: 280 ] وأجيب: بأنه دلالة فيه على اختصاص جار المسجد بلفظ الجار; لأن الحديث إنما ورد في حكم الصلاة، ثم إنه لو سلم بذلك فالحديث ضعيف لا يقوم به الاستدلال.

        2 - أن المقصود من الجوار البر بالجيران، والإحسان إليهم، وهذا ينتظم الجار الملاصق وغيره، ولا يتحقق معنى المجاورة إلا باختلاط الجيران، وذلك لا يتم إلا إذا جمعهم مسجد واحد.

        وأجيب: بأننا نسلم لكم أن بر الجيران فيما بينهم من مقاصد الجوار، ولكن المقصود بالجيران الملاصقين لا غير; لأن الجار من المجاورة وهي الملاصقة، فكيف ينتظم الملاصق وغيره.

        ويمكن أن يؤخذ على هذا القول: أنه أخرج الذمي من مسمى الجار; لأن المسجد لا يضمه مع أن النصوص الواردة في الجار جاءت عامة، إلا إذا أريد باتحاد المسجد سماع الأذان.

        واستدل القول الرابع: بقوله تعالى: لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا .

        [ ص: 281 ] وجه الاستدلال بهذه الآية: أن الله جعل اجتماعهم في المدينة جوارا.

        وأجيب عن هذا الاستدلال: أن الجوار يترتب عليه بعض الحقوق والآداب الواجبة والمستحبة، وبالتالي فلا ينضبط هذا الأمر إذا قلنا بهذا القول، ولئن أمكن ذلك فيما مضى فلا يمكن الآن وبخاصة مع اتساع العمران.

        ويمكن أن يستدل للقول الثامن لهذا القول: بأن الاستدلالات المذكورة في هذه المسألة لا تخلو من ضعف، وبالتالي فلا تنهض للاحتياج، فلم يبق إلا العرف، وقد عهد من أحوال الشريعة الأخذ به في أمثال هذه المسائل.

        واعترض الشوكاني -رحمه الله - على هذا القول فقال: « وأما الأعراف في مسمى الجوار فهي تختلف باختلاف أهلها، ولا يصح حمل القرآن على أعراف متعارفة، واصطلاحات متواضعة » .

        ويمكن أن يجاب عن هذا الاعتراض: بأن محله فيما ورد فيه نص، فأما ما لا نص فيه ، فإن العرف حجة كما قرر ذلك في علم الأصول.

        الترجيح:

        الراجح - والله أعلم - أن مسمى الجار يرجع فيه إلى العرف; إذ ما ورد مطلقا على لسان الشارع; فإنه يرجع إلى العرف في تحديده وضبطه.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية