الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        [ ص: 453 ] الفصل الثالث

        مبطلات الوصية

        وفيه مباحث:

        [ ص: 454 ] [ ص: 455 ] المبحث الأول

        المبطل الأول

        الرجوع عن الوصية

        وفيه مطالب:

        المطلب الأول: جواز رجوع الموصي عن الوصية

        أجمع الفقهاء على أن الوصية عقد غير لازم، وأن الموصي يحق له أن يرجع عن وصيته، متى ما أراد ذلك، وأن ذلك لا يفوت عليه إلا بالموت، فإذا مات قبل أن يرجع عن وصيته، فإن وصيته تنفذ، ولا يحق للورثة أن يفسخوها ما دامت لا تخالف نصا شرعيا، ولا حيف فيها [ ص: 456 ] ولا جور، وأنه يجوز للموصي في حال حياته الرجوع عن الوصية كلها أو بعضها، سواء وقع الإيصاء منه في حال صحته أو مرضه.

        قال ابن المنذر في كتاب الإجماع: « وأجمعوا على أن للرجل أن يرجع في كل ما يوصي به، إلا العتق » .

        قال ابن عبد البر في التمهيد: « قال أبو عمر: لا يختلف العلماء أن للإنسان أن يغير وصيته ويرجع فيها فيما شاء منها... » .

        قال الكاساني في بدائع الصنائع عن عقد الوصية: « وأما صفة هذا العقد فله صفتان: إحداهما قبل الوجود، والأخرى بعد الوجود، أما التي هي قبل الوجود فهي أن الوصية بالفرائض والواجبات واجبة ، وبما وراءها جائز، ومندوب إليها ومستحبة في بعض الأحوال... وأما التي هي بعد الوجود فهي أن هذا عقد غير لازم في حق الموصي حتى يمكن الرجوع في عقد المعاوضة فهي بالتبرع أولى، كما في الهبة، والصدقة » .

        جاء في المدونة: « قال مالك: الأمر المجتمع عليه عندنا أن الموصي إذا أوصى في صحته أو في مرضه بوصية فيها عتاقة رقيق من رقيقه، فإنه يغير من ذلك ما بدا له، ويصنع في ذلك ما شاء حتى يموت، وإن أحب أن يطرح تلك الوصية، ويبدل غيرها فعل » .

        قال الباجي في المنتقى شرح الموطأ: « قال (يحيى ) : قال مالك: [ ص: 457 ] الأمر المجتمع عليه عندنا أن الموصي إذا أوصى في صحته، أو في مرضه بوصية فيها عتاقة رقيق من رقيقه، أو غير ذلك فإنه يغير من ذلك ما بدا له، ويصنع من ذلك ما شاء حتى يموت...(ش ) : وهذا على ما قال أن الموصي في صحته ، أو مرضه يعتق بعض رقيقه، أو يتصدق بصدقة، أو غير ذلك من أعمال البر، فإنه غير لازم له; لأن عقد الوصية عقد جائز غير لازم، وله أن يغير من ذلك ما شاء، ويبطل منه ما شاء من غير عوض، أو يعوض منه غيره في صحته ، أو مرضه ما لم يمت، فإذا مات لزمت تلك الوصية، فليس لغيره أن يغير شيئا من ذلك ولا يبطله ولا يبدله بغيره » .

        قال العمراني: « يجوز للموصي أن يرجع فيما أوصى به ; لأن الوصية لا تلزم إلا بعد موته، فجاز له الرجوع فيها، كما لو وهب لغيره شيئا، ثم رجع الواهب قبل قبول الموهوب له » .

        قال ابن قدامة: « وأجمع أهل العلم على أن للموصي أن يرجع في جميع ما أوصى به، وفي بعضه، إلا الوصية بالإعتاق، والأكثرون على جواز الرجوع في الوصية به أيضا.

        روي عن عمر -رضي الله عنه- أنه قال: يغير الرجل ما شاء من وصيته .

        وبه قال عطاء، وجابر بن زيد، والزهري، وقتادة، ومالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور » .

        واستدلوا لما ذهبوا إليه بما يلي: أما كونه يملك الرجوع عنها ما دام حيا:

        (255 ) 1 - ما رواه ابن أبي شيبة من طريق عبد الله بن الحارث بن أبي ربيعة أو الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة، قال: قلت لعمر: شيء يصنعه [ ص: 458 ] أهل اليمن، يوصي الرجل، ثم يغير وصيته، قال: ليغير ما شاء من وصيته .

        (256 ) وقال سعيد بن منصور: حدثنا هشيم قال: أخبرنا يونس قال: حدثنا الوليد بن أبي هشام مولى قريش قال: قرأت وصية حفصة أم المؤمنين، فإذا هي قد أوصت بأشياء، وإذا في آخر وصيتها إن أتى على ذواتي ما لم أغيرها .

        (257 ) ولما رواه ابن وهب قال يحيى بن أيوب: وأخبرني نافع مولى ابن عمر أن ابن عمر كان يشترط في وصيته، إن حدث بي حدث قبل أن أغير كتابي .

        ولا يعرف له مخالف من الصحابة فكان إجماعا.

        2 - ما رواه الدارقطني من طريق أبي إسحاق، عن ابن عون، عن القاسم ابن محمد، عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: « ليكتب الرجل في وصيته: إن حدث بي حدث موت قبل أن أغير وصيتي هذه » . [إسناده صحيح].

        وجه الاستدلال: قول عائشة -رضي الله عنها- أيضا صريح في أن للرجل أن يغير في وصيته، وأن وصيته جائزة ما لم يغير فيها شيئا.

        [ ص: 459 ] 3 - أن الوصية تبرع لا يلزم إلا بموت الموصي، فجاز له الرجوع عنها قبل لزومها، كهبة ما يفتقر إلى القبض قبل قبضه.

        4 - أن الأصل في التصرفات الشرعية أنها لا تلزم إلا إذا ارتبط القبول بالإيجاب، والذي وجد من الموصي حال حياته إنما هو الإيجاب فقط، لا يكون إلا بعد وفاة الموصي، فجاز الرجوع عنها قبل القبول، كما يجوز الرجوع عن الإيجاب في سائر العقود، كالبيع وغيره، بل التبرع أولى بالإبطال قبل القبول.

        كما يستأنس بما ثبت من آثار عن جمع من فقهاء التابعين، منهم: عطاء، والشعبي، والحسن، والزهري، وطاووس، وجابر بن زيد، وغيرهم أنهم يقولون بجواز تغيير الرجل في وصيته ما شاء.

        5 - ولأن عقد الإيصاء لا يقترن فيه الإيجاب والقبول إلا بعد موت الموصي، ولكل عقد لم يقترن فيه الإيجاب والقبول يصح الرجوع عنه.

        6 - ولأن الوصية عطية تتنجز بالموت، فجاز الرجوع عنها قبل تنجيزها، كهبة ما يفتقر إلى القبض قبل قبضه.

        وأما كون الوصية إذا توفرت فيها شروطها لا يصح فسخها بعد موت [ ص: 460 ] الميت; فلأن العقد صادر من أهله في محله، فلم يصح لغير من أبرمه فسخه كسائر تصرفات الميت النافذة قبل موته من بيع وشراء ونكاح، ونحو ذلك.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية