الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        [ ص: 385 ] المطلب الثالث

        شهادة العدل الواحد بالوصية

        اختلف الفقهاء في ثبوت الوصية بشهادة العدل الواحد على قولين:

        القول الأول: ثبوتها مع يمين الموصى له.

        وهو قول الجمهور: مالك، والشافعي، وأحمد.

        القول الثاني: عدم ثبوتها.

        وهو مذهب الحنفية ، وبعض المالكية ، والأوزاعي.

        الأدلة:

        دليل الجمهور:

        1 - (241 ) ما رواه مسلم من طريق عمرو بن دينار، عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قضى بيمين وشاهد .

        [ ص: 386 ] ونوقش الاستدلال بهذا الحديث من وجوه:

        الوجه الأول: بأنه زيادة على النص وهو نسخ، والقرآن لا ينسخ بخبر الواحد; لأنه قطعي، وخبر الآحاد ظني، والظني لا ينسخ القطعي.

        وأجيب: بأنه مردود من وجوه:

        الأول: أن الزيادة عن النص ليست نسخا له ; لأن النسخ رفع الحكم الشرعي بحكم شرعي، أو بيان لانتهاء مدة العمل بالحكم الأول على الخلاف بين الأصوليين، والزيادة على النص لا تتضمن رفعه، ولا انتهاء العمل به.

        الثاني: على تسليم كونها نسخا، فإنه لا مانع من نسخ القرآن بخبر الآحاد على الصحيح عند الأصوليين ; لأن الكل من عند الله، ولأن المنسوخ هو الحكم دون اللفظ، وهو ظني، والظني يجوز نسخه بالظني لتساويهما في القوة.

        الثالث: وعلى تسليم منع نسخ القرآن بخبر الآحاد، فإن حديث القضاء بالشاهد واليمين حديث متواتر أو مستفيض، ويجوز نسخ القرآن بالسنة المتواترة، أو المستفيضة عند الحنفية ، فيلزمهم القول بمقتضى هذا الحديث.

        الوجه الثاني: أن هذا الحديث قد أعل، فقد طعن فيه يحيى بن معين، وقال الطحاوي: منكر.

        وأجيب: بأن أحاديث القضاء بالشاهد واليمين رواها جمع من الصحابة [ ص: 387 ] منهم: علي، وابن عباس، وزيد بن ثابت، وجابر، وأبو هريرة، وسعد بن عبادة، وعبد الله بن عمرو، والمغيرة بن شعبة -رضي الله عنهم-.

        وقال ابن عبد البر عن هذا الحديث: لا مطعن لأحد في إسناده، وقال: لا خلاف بين أهل المعرفة في صحته.

        وقال الشافعي: ثابت لا يرده أحد، وقال النسائي: إسناده جيد.

        وقال البزار: في الباب أحاديث حسان أصحها حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-.

        وأما قول الطحاوي: « لا يعلم أن قيسا يحدث عن عمرو بن دينار » ، فلا يقدح في صحة الحديث، وقد سمع قيس من هو أقدم من عمرو.

        الوجه الثالث: أن معنى الحديث قضى تارة بشاهد، وتارة بيمين، فلا دلالة فيه على الجمع بينهما.

        وأجيب: بأن هذا التأويل لا دليل عليه، بل في بعض ألفاظ الحديث قضى باليمين مع الشاهد، والمعية تقتضي المصاحبة.

        الوجه الرابع: أن المراد يمين المدعى عليه.

        وأجيب: أنه غير مسلم; لأن قوله: قضى بالشاهد واليمين ، يدل على أن اليمين مع الشاهد طريق من طرق القضاء.

        2 - أن اليمين تشرع في حق من ظهر صدقه، وقوي جانبه، ولذا شرعت في حق صاحب اليد لقوة جنبته بها، وفي حق المنكر لقوة جنبته; لأن الأصل براءة ذمته ، فوجب أن تشرع في حق المدعي هنا لتقوي جانبه بالشاهد.

        [ ص: 388 ] 3 - أن اليمين وإن كان حاصله تأكيد الدعوى لكنها إشهاد الله عز وجل من قبل الحالف، فلما كان لليمين هذا الشأن صلحت للحكم بها.

        4 - أنا وجدنا اليمين أقوى من المرأتين لدخولها في اللعان دون المرأتين، وقد حكم بالمرأتين مع الشاهد فيحكم باليمين مع الشاهد.

        5 - أن اليمين لو انفردت لحلت محل البينة في الأداء والإبراء، فكذلك حلت هنا محل المرأتين في الاستحقاق.

        دليل القول الثاني:

        1 - قوله تعالى في الشهادة على الوصية: يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم .

        فإنه يدل بمفهومه على عدم قبول شهادة العدل الواحد.

        ونوقش: أن الاستدلال بهذه الآية لا يتم للحنفية ; لأنها تدل على ذلك بطريق المفهوم، وهم لا يقولون بمفاهيم المخالفة.

        وأيضا هو معارض بمنطوق الحديث السابق، والمنطوق مقدم على المفهوم.

        2 - قوله تعالى: واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء .

        فالآية حصر لأنواع الحجة في الشهادة.

        ونوقش الاستدلال بهذه الآية: أنها واردة في التحمل، فلا دلالة فيها [ ص: 389 ] على عدم قبول الواحد في الأداء، وعلى تسليم عمومها لحالتي الأداء والتحمل، فإنها لا تدل على عدم قبول شهادة الواحد إلا بطريق المفهوم، والمنطوق مقدم عليه.

        3 - حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: لو يعطى ناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه .

        وجه الدلالة: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- جعل جنس الأيمان على المنكرين; لأن الألف واللام لاستغراق الجنس.

        ونوقش هذا الاستدلال: بما تقدم من أن اليمين في الشرع تشرع في حق من ظهر صدقه، وقوي جانبه.

        4 - حديث الأشعث بن قيس، وفيه قوله -صلى الله عليه وسلم-: شاهداك أو يمينه .

        وجه الدلالة: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- خير المدعي بين أمرين لا ثالث لهما.

        ونوقش هذا الاستدلال من وجوه:

        الوجه الأول: أنه لا يلزم من التنصيص على الشيء نفي ما عداه.

        الوجه الثاني: أن هذا الحديث بيان لأهم أنواع البينة، وليست نفيا لما عداها من البينات، وإلا لكانت مخالفة لنص القرآن في قبول شهادة الرجل والمرأتين.

        الوجه الثالث: أنه استدلال بالمفهوم يعارضه منطوق حديث الشاهد واليمين.

        5 - أن الله تعالى أجاز شهادة المرأتين مع الرجل، وجعلهما اثنتين [ ص: 390 ] لتذكر إحداهما الأخرى، فلو كان يكتفى بشهادة شاهد ويمين المدعي، لما كان هناك حاجة إلى أن تذكر إحداهما الأخرى.

        ونوقش هذا الاستدلال: بأن الحاجة إلى أن تذكر إحداهما الأخرى فيما إذا شهدتا، أما إذا لم تشهدا قامت مقامهما يمين الطالب.

        6 - أن شهادة من يجر إلى نفسه مغنما، أو يدفع عنها مغرما غير مقبولة، والحكم للمدعي بيمينه من هذا الوجه.

        ونوقش: بعدم التسليم، بل الحكم بالشاهد.

        7 - أن البينة حجة المدعي، واليمين حجة المدعى عليه ; لأن المدعي يدعي أمرا خفيا، فيحتاج إلى إظهاره، ولا تصلح اليمين مظهرة للحق; لأنها كلام الخصم.

        ونوقش: بعدم التسليم، وأيضا: هو استدلال في محل النزاع.

        الترجيح:

        الراجح - والله أعلم - قول جمهور أهل العلم; لقوة أدلتهم، حيث روى الحكم بالشاهد واليمين نيف وعشرون صحابيا، ولأن الخلفاء الراشدين قضوا بها.

        قال ابن القيم: « قال أبو عبيد: وهو الذي نختاره اقتداء برسول الله -صلى الله عليه وسلم- واقتصاصا لأثره، وليس ذلك مخالفا لكتاب الله عند من فهمه، ولا بين حكم الله وحكم رسوله اختلاف إنما هو غلط في التأويل حين لم يجدوا ذكر اليمين في الكتاب ظاهرا فظنوه خلافا، وإنما الخلاف لو كان الله حظر اليمين في ذلك، ونهى عنها، والله تعالى لم يمنع من اليمين إنما أثبتها في الكتاب إلى [ ص: 391 ] أن قال: فرجل وامرأتان ، وأمسك، ثم فسرت السنة ما وراء ذلك، وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مفسرة للقرآن، ومترجمة عنه، وعلى هذا أكثر الأحكام » .

        التالي السابق


        الخدمات العلمية