الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        [ ص: 78 ] المطلب الثالث

        الوصية بجميع المال لمن لا وارث له

        اختلف العلماء - رحمهم الله - في هذه المسألة على قولين:

        القول الأول: تصح وصية من لا وارث له بزيادة عن الثلث، بل بجميع ماله.

        وهو قول الحنفية ، وقول للإمام مالك، وقول للشافعية، ومذهب الحنابلة ، والحسن البصري، وابن سيرين، وبه قال أبو عبيدة، ومسروق ، وإسحاق.

        القول الثاني: لا تصح وصيته فيما زاد على الثلث.

        وهو قول ثان للإمام مالك وهو المذهب، وقول الشافعي، ورواية عن الإمام أحمد، قال به الظاهرية ، وهو قول الأوزاعي، وابن شبرمة ، والعنبري.

        [ ص: 79 ] وليس للإمام أن يجيزه; لأنه مال المسلمين، وهو قول زيد بن ثابت، وقيد بعض المالكية الخلاف بما إذا كان للمسلمين بيت مال، وكانت الوصية بما زاد على الثلث لأغنياء، أو جهة لا يصرفه الإمام فيها.

        أما إذا كانت الوصية للفقراء، أو لجهة من الجهات التي يصرفه فيها الإمام، فإن الوصية بجميع المال تنفذ، ولا تعترض، كما أنه إذا لم يكن بيت مال منتظم، فإن الوصية تنفذ للموصى له، وقيل: يعطى الموصى له الثلث والباقي للفقراء.

        كما أجاز المالكية لمن لا وارث له، أن يحتال على بيت المال، لإخراج ماله في طاعة الله، بأن يشهد في صحته بحقوق في ذمته من زكوات وكفارات تستغرق ماله، فإذا مات وجب تنفيذها ولو أتت على جميع التركة.

        القول الثالث: أنها صحيحة في الجميع، موقوفة على إجازة الإمام، إن أجازها جازت، وإن ردوها لزمت في الثلث، بناء على أن للإمام حق الإجازة.

        وهو قول يروى عن أشهب من المالكية ، وأنكره أصحابه.

        الأدلة:

        أدلة الرأي الأول:

        استدل لهذا الرأي بما يلي:

        1 - قوله تعالى: من بعد وصية توصون بها أو دين .

        وجه الدلالة: أن الله سبحانه ذكر الوصية هنا مطلقة، فجاءت السنة فقيدتها بالثلث لمن له وارث، فيبقى من لا وارث له على الإطلاق.

        [ ص: 80 ] ونوقش: بأن التقييد بالثلث مطلقا لمن له وارث، ومن لا وارث له.

        2 - حديث سعد -رضي الله عنه- ، وفيه قوله -صلى الله عليه وسلم-: إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس .

        وجه الدلالة: أن المنع من الزيادة على الثلث من أجل الورثة; لقوله -صلى الله عليه وسلم-: إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس .

        وأيضا: فإن كلمة « إن » نص ظاهر في التعليل، كما أنه ظاهر في أن المقصود بالورثة، الورثة الخاصة غير بيت المال، ألا ترى إلى قول سعد: « لا يرثني إلا ابنة لي » ، وإلى قوله -صلى الله عليه وسلم-: « ورثتك » بالإضافة للمخاطب، وإلى قوله: « يتكففون الناس » ، فإن ذلك كله يدل على أن المقصود بالورثة غير بيت المال، وأن بيت المال غير وارث; لأن بيت المال لا يتكفف.

        ونوقش من وجهين:

        الأول: أن قوله: « إنك إن تدع ورثتك ... » ، جملة مبتدأة قائمة بنفسها لا تعلق لها بما قبلها، وأنه ينبغي للشخص أن يراعي حال ورثته عند الوصية.

        الثاني: أنه لو سلم أن العلة ما ذكر لجاز أن يوصى بأكثر من الثلث عند غنى الورثة، وأنهم لا يقولون بذلك.

        3 - أنه وارد عن علي -رضي الله عنه-.

        4 - قول ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال لبعض أهل الكوفة: « إنكم من أحرى بالكوفة أن يموت أحدكم فلا يدع عصبة ولا رحما، فلا يمنعه إذا كان كذلك أن يضع ماله في الفقراء والمساكين » .

        [ ص: 81 ] وجه الدلالة: أن ابن مسعود -رضي الله عنه- يرى المنع لحق الوارث، فإذا لم يكن له وارث، وكان له الحق في أن يوصي ولو بماله كله في وجوه البر والخير.

        ه - أنه وارد عن ابن عباس -رضي الله عنهما-.

        6 - أنه لا حق لأحد فيه فلصاحبه أن يضعه حيث شاء، وإذا كان للإمام أن يضعه بعد موته حيث شاء، فكذلك لصاحبه من باب أولى.

        ونوقش هذا الاستدلال: بأنه قياس مع الفارق، بأن الإمام قد أذن له في التصرف، وأما الميت فلم يأذن الله له إلا في الثلث فأقل.

        7 - ولأن بيت المال لا يسمى وارثا لغة، ولا اصطلاحا.

        دليل القول الثاني:

        1 - حديث عمران بن حصين -رضي الله عنه- أن رجلا أعتق ستة مملوكين له عند موته، لم يكن له مال غيرهم، فدعا بهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، فجزأهم أثلاثا، ثم أقرع بينهم، فأعتق اثنين، وأرق أربعة، وقال له قولا شديدا .

        وجه الاستدلال: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يجز تبرعه بما زاد عن الثلث، ولم ينقل أنه راجع الورثة، فدل على منعه مطلقا ، والوصية تبرع فتقاس على العتق.

        ويمكن مناقشته: بأنه يحتمل أنه لم يكن له وارث، فرده النبي -صلى الله عليه وسلم- نظرا لبيت مال المسلمين، أو أن الوارث لا يجيز ذلك ولا يرضاه، وهذا في الغالب.

        2 - حديث سعد رضي الله عنه، وفيه قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: الثلث والثلث كثير .

        ونوقش: بأن حديث سعد -رضي الله عنه- لا يقتضي بطلان الوصية; لأنه -صلى الله عليه وسلم- بين [ ص: 82 ] علة النهي، وهو أن المنع لحق الورثة حتى يستعينوا بما يتركه من مال عن سؤال الناس، وهذا يستدعي عدم جواز التصرف في هذا الحق ما دام صاحبه متمسكا به، أما إذا تنازل عنه وطابت به نفسه، فلا مانع من إنفاذه; لأنه أسقط حقه بنفسه.

        3 - حديث أبي الدرداء -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم عند وفاتكم، زيادة في حسناتكم .

        وجه الدلالة: قوله -صلى الله عليه وسلم-: « بثلث أموالكم » يدل على أنه لا حق لنا في الزائد عليه.

        ونوقش: بأنه لا يثبت.

        4 - ما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع، فإن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: « الثلث، والثلث كثير » فكيف بالزيادة؟!.

        ونوقش: بما نوقش به حديث سعد السابق.

        (214 ) 5 - ما رواه أبو داود من طريق إسماعيل بن عياش، عن يزيد بن حجر، عن صالح بن يحيى بن المقدام، عن أبيه، عن جده قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: أنا وارث من لا وارث له، أفك عانيه، وأرث ماله، والخال وارث من لا وارث له، يفك عانيه ويرث ماله .

        [ ص: 83 ] 6 - أن الأصل في الوصية المنع; لأنها تصرف بعد الموت، خولف ذلك في الثلث بدليل دل على الجواز، فيبقى الزائد على الثلث ممنوعا على الأصل، حتى يدل الدليل على الجواز، عملا بقاعدة الاستصحاب وبقاء ما كان على ما كان.

        7 - أن له من يعقل عنه، وهو بيت مال المسلمين، فلم تنفذ وصيته بأكثر من الثلث كمن له وارث.

        والقائم على بيت المال لا يملك الإجازة; لأن نظره لبيت المال نظر مصلحة، وإجازة هذه الوصية إضرار ببيت المال.

        ونوقش هذا الاستدلال: بأن القول بأن بيت المال وارث غير مسلم، فإنه [ ص: 84 ] حافظ لأموال المسلمين; لتكون تحت تصرف الإمام يضعها حيث شاء في مصالحهم.

        سبب الخلاف:

        وسبب الخلاف أمور ثلاثة:

        الأول: هل النهي عن الوصية بأكثر من الثلث تعبد محض، أو معقول المعنى؟.

        الثاني: هل بيت المال وارث، أو مجرد حائز غير وارث ؟.

        الثالث: تعارض الأدلة.

        والأول هو الراجح في نظري; لأن المنع من الوصية بأكثر من الثلث نظرا للورثة كما تقدم تقريره، وكما هو فهم السلف، وهذا لا وارث له، فله أن يخص بماله من شاء، والله أعلم.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية