الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        [ ص: 145 ] المبحث الثاني

        زمان صرفها

        الوصية تبرع بعد الموت لا تنفذ إلا بعد وفاة الموصي، ولا تنفذ في حياته وحال مرضه; لاحتمال رجوعه عنها، أو حدوث نقصان في المال أو طروء آفة عليه، ولأنها لا يستحقها الموصى له إلا بعد موت الموصي إجماعا.

        فإن تسرع الوصي ونفذها قبل وفاة الموصي ضمن ما فرقه في حياة الموصي، ويفرقها بعد وفاته بأمر الحاكم، ولا يستقل بتفريقها.

        وإذا نفذها الوصي بنفسه قبل وفاته بطلت الوصية، ولا تنفذ ثانية بعد موته.

        إذا عين الموصي وقتا لتنفيذ وصيته لزم الوقوف عند وصيته ، كما لو أوصى أن يحج عنه بعد عام، أو أوصى بسكنى داره بعد عام من موته، ونحو ذلك.

        واختلف إذا لم يعين وقتا هل يجب تنفيذها فورا أو لا؟ فقال القرافي، والشافعي، والحنابلة : يجب تنفيذها فورا، ولا يجوز التراخي، بناء على أن الأمر للفور.

        [ ص: 146 ] قال البهوتي: « (فهي) أي: الدية (ميراث تحدث على ملك الميت) ; لأنها بدل نفسه ونفسه له، فكذلك بدلها، ولأن دية أطرافه في حال حياته له، فكذلك دية نفسه بعد موته (فيقضى منها) أي: الدية (دينه، ويجهز منها إن كان أخذها (قبل تجهيزه » .

        وسئل ابن زرب فيمن جعل له تنفيذ الوصية هل عليه أن يعجل بتنفيذها أم لا؟

        فأجاب: لا يعجل الوصي بتنفيذ عهد الموصي حتى يتبين ويكشف إن كان عليه دين، أو تباعة، أو له شريك في مال، وحتى يعذر إلى الورثة في العهد، أو يقروا على أنفسهم به، وإن نفذ العهد قبل الإعذار أو قبل التزام الورثة له، وقبل فحص الوصي عن تباعات الموصي; فهو ضامن إذا عجل التنفيذ جدا، وإذا كان معروفا بالدين فنفذ الوصي الوصية ، ثم تلف باقي ماله بعد أن أبرز الدين لغرمائه، ضمن الوصي للغرماء وضمن للورثة ما نفذ زائدا على ثلث مال الموصي بعد أداء دينه، إلا أن يكون الدين قد أبرز للغريم بحكم، فلا ضمان على الوصي، ولا يرجع الغرماء فيما في أيدي الورثة.

        ويدل له ما روي عن ابن الزبير -رضي الله عنه- أنه أوقف وصية أبيه أربع سنوات، وهو يتقصى ما عليه من الديون قبل تنفيذها.

        فإن عجل بتنفيذ الوصية قبل الإعذار للورثة، وقبل التقصي عن الديون ضمن ما يترتب على تعجيله من ضياع حق الورثة، أو أرباب الديون.

        كما أنه إذا ماطل وسوف في تنفيذها أكثر مما يجب، ومن غير عذر فإنه [ ص: 147 ] يأثم بذلك، ولما فيه من ظلم الموصى له بتأخير حقه، وحبسه عنه بغير عذر ، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: لي الواجد، يحل عرضه وعقوبته .

        ولا يقبل منه دعوى تنفيذها بعد ذلك إلا ببينة على الدفع، أو براءة من القاضي لتعلقها بذمته.

        وإذا ما ترتب على تأخيره ضياع الموصى به لزمه غرمه ; لما يلي:

        1 - لتعديه لحبسه عن أهله بعد إمكان تنفيذه.

        2 - وقياسا على ضياع الزكاة بعد التمكن من أدائها.

        3 - وعلى منع الشريك من نصيبه بعد طلبه حتى ضاع.

        4 - وعلى امتناع المودع من رد الوديعة بعد طلبها حتى ضاعت.

        5 - وعلى حبس الوصي مال اليتيم بعد رشده حتى ملك المال.

        وفي حالة غيبة الموصى له المستحق للوصية، فإن الموصى به يبقى تحت يد المكلف بتنفيذ الوصية، وكذلك قبل قبولها.

        وللشافعية قولان فيمن توضع الوصية عنده قبل قبول الموصى له:

        الأول: أنها توضع تحت يد الوصي، حتى يحضر الموصى له من غيبته ، فإن قبلها سلمت له، وإن ردها دفعت للورثة.

        القول الثاني: أن للورثة الامتناع من وضعها تحت يد الوصي، وتوضع تحت يد الحاكم إلى أن يستقر أمرها.

        [ ص: 148 ] فإن حضر بعض الموصى لهم، وأثبت الوصية، وطلب حصته، فإنها تعطى له، ولا يمنع من حقه حتى يحضر الغائب، فإن سلم المال فذاك، وإلا شارك الذي لم يأخذ الذي أخذ بقدر حقه ، ولا يكون أخذه السابق قسمة.

        وقال المالكية : لا يصح للحاضر أخذ نصيبه في الوصية المشتركة قبل قدوم شريكه الغائب، ولا يجوز للوصي تسليمه ذلك; لأن القسمة على الغائب من اختصاص الحاكم، ويجوز لغيره أن يقسم عليه.

        واختلف إذا كان في الورثة حمل ينتظر زيادته: فقال أشهب: تنفذ الوصايا ; لأن الأصل عدم الهلاك.

        وقال مالك: تؤخر الوصايا حتى يتبين الأمر; ويوقف الثلثان فربما هلك فيرجع الورثة على الموصى له بثلثي ما أخذه، وقد يفوت ما في يده أو يعدم.

        وتعجل الوصية على الراجح لصاحبها إذا كانت بدراهم أو دنانير مرسلة ; لأن الوصية بالعدد واجبة الإخراج كالدين، كما قال القرافي.

        قال: « ولو كانت الوصية بعدد دنانير عجل، ووقف الباقي اتفاقا ; لأن الوصية بالعدد واجبة الإخراج كالدين » .

        وأما الدين أيضا فقيل: يعجل قبل وضع الحمل، وهو المشهور.

        وقيل: يؤخر حتى يوضع الحمل، ويعين له وصي، ويعذر إلى الوصي في ثبوت الدين.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية