الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        القسم الخامس: التصرفات التي اختلف الفقهاء في اعتبارها رجوعا: وهذه التصرفات هي:

        1 - هدم الموصي للدار الموصى بها، أو انهدامها بنفسها إذا غير الاسم.

        2 - بناء الموصي العرصة الموصى بها دارا، وغرس الأرض الموصى بها.

        3 - رهن الموصي للموصى به.

        [ ص: 476 ] وفيما يأتي بيان حكم كل تصرف من التصرفات المذكورة:

        الأول: هدم الدار الموصى بها، أو انهدامها إذا غير الاسم:

        إذا أوصى بدار ثم هدمها الموصي، أو انهدمت بنفسها، فتغير بذلك اسم الموصى به، فهذا قد اختلف الفقهاء في كونه رجوعا عن الوصية على قولين:

        القول الأول: أن هدم الدار أو انهدامها لا يعتبر رجوعا في الوصية.

        قال به الحنفية ، وهو المعتمد عند المالكية ، ووجه عند الحنابلة .

        قال الكاساني في بدائع الصنائع: « ولو أوصى بثوب ثم غسله ، أو بدار ثم جصصها، أو هدمها، لم يكن شيء من ذلك رجوعا » .

        وقال الباجي في المنتقى شرح الموطأ: « ولو أوصى له بدار فهدمها وصيرها عرصة فليس برجوع; لأنه أوصى له بعرصة وبناء، فأزال البناء وأبقى العرصة » .

        وقال المرداوي في الإنصاف: « قوله: (وإن خلطه بغيره على وجه لا يتميز، أو أزال اسمه، فطحن الحنطة، أو خبز الدقيق، أو جعل الخبز فتيتا، أو نسج الغزل، أو نجر الخشبة بابا ونحوه، أو انهدمت الدار وزال اسمها. فقال القاضي: هو رجوع. وذكر أبو الخطاب فيه وجهين ) » .

        القول الثاني: أن هدم الدار أو انهدامها تعتبر رجوعا في الوصية، وأما [ ص: 477 ] انهدامها من غير فعل الموصي فيعتبر رجوعا في الجزء المنهدم دون العرصة ، ودون الباقي من الدار.

        وهو قول غير معتمد عند المالكية ، وقال به الشافعية ، وهو المذهب عند الحنابلة .

        قال الدردير في الشرح الكبير: « (وفي) بطلان الوصية بسبب (نقض ) بفتح النون وسكون القاف وبالضاد المعجمة أي: هدم بناء (العرصة ) الموصى بها مع بنائها، ولو قال: الدار ونحوها كان أوضح، وعدم بطلانها به (قولان ) المعتمد الثاني، فليس الهدم برجوع » .

        قال زكريا الأنصاري في أسنى المطالب: « (فرع: هدم الدار المبطل لاسمها رجوع) عن الوصية (في النقض ) أي: المنقوض من طوب وخشب (وكذا في العرصة ) لظهور ذلك في الصرف عن جهة الوصية (وانهدامها ) ولو بهدم غيره (يبطلها في النقض ) » .

        قال المرداوي في الإنصاف: « اعلم أنه إذا خلطه بغيره على وجه لا يتميز، أو أزال اسمه، فطحن الحنطة، وخبز الدقيق ونحوه، وكذا لو زال اسمه بنفسه، كانهدام الدار أو بعضها، فقال القاضي: هو رجوع، وهو المذهب » .

        [ ص: 478 ] الأدلة:

        دليل القول الأول:

        أن الدار تشمل العرصة، والبناء، فالموصي أزال البناء بالهدم، وأبقى العرصة ; لأن الدار بعد هدمها صارت عرصة، فالعرصة للموصى له.

        دليل القول الثاني:

        أن الهدم دليل على إعراض الموصي عن الوصية، ولأنه لا يطلق على المنهدم اسم الدار.

        الترجيح:

        الراجح - والله أعلم - هو القول الثاني ; وذلك لدلالة فعل الموصي بهدم الدار على إعراضه عن الوصية، ولعدم إطلاق اسم الدار على المنهدم.

        الثاني: بناء العرصة دارا، وغرس الأرض:

        إذا أوصى بعرصة ثم بناها الموصي دارا، أو أوصى بأرض ثم غرسها ، فقد اختلف الفقهاء في كون هذا التصرف رجوعا في الوصية على قولين:

        القول الأول: أن ذلك يعتبر رجوعا في الوصية.

        قال به الحنفية ، والشافعية ، ووجه عند الحنابلة ، صححه المرداوي في الإنصاف، والبهوتي في كشاف القناع، واختاره القاضي.

        جاء في الفتاوى الهندية: « ولو أوصى بأرض، ثم زرع فيها رطبة [ ص: 479 ] لا يكون رجوعا، وإن غرس الكرم أو الشجرة كان رجوعا، كذا في فتاوي قاضي خان.

        وفي الوسيط: « لو بنى أو غرس في العرصة الموصى بها، فثلاثة أوجه: أحدها: أنه رجوع; لأن البناء غير داخل في الوصية وهو للتخليد، والثاني: لا، فإنه انتفاع مجرد، والثالث: أنه رجوع عن المغرس وأس الجدار حتى لو تجنى لم يرجع أيضا إلى الموصى له، وليس رجوع عما عداه » .

        وقال زكريا الأنصاري في شرح البهجة: « ويحصل الرجوع أيضا ببناء العرصة الموصى بها أو بغرسها ; لأن ذلك للدوام، فيشعر بأنه قصد بقاءها لنفسه » .

        وفي شرح منتهى الإرادات: « فإن غرسها أو بناها فرجوع في أصح الوجهين; لأنه يراد للدوام فيشعر بالصرف عن الأول ذكره الحارثي، ويمكن إدخالها في قول المتن: أو بنى أو غرس أو وطئ أمة موصى بها ولم تحمل من وطئه » .

        القول الثاني: أن ذلك لا يعتبر رجوعا في الوصية.

        قال به المالكية في المشهور من مذهبهم ، وهو وجه عند الحنابلة ، اختاره أبو الخطاب.

        [ ص: 480 ] الأدلة:

        دليل القول الأول:

        أن مثل هذا التصرف يكون للدوام، فهو إشعار بأن الوصي أراد إبقاءها لنفسه.

        ولأن الغرس يؤدي إلى تغيير اسم الموصى به، فإن الأرض بعد الغرس يسمى بستانا.

        دليل القول الثاني:

        1 - أن الوصية بالبناء تتناول الأرض، فإذا بطلت في البناء بقيت في الأرض، فتكون الأنقاض للورثة، والأرض للموصى له.

        2 - قياس الغرس على الزراعة، فإنها لا تعتبر رجوعا بالاتفاق ، فكذلك الغرس.

        3 - ولأن هذه الأفعال لم تعدم الموصى به، بل هو باق بعدها، وإن كان متصلا بغيره

        الترجيح:

        الراجح - والله أعلم - هو القول الأول; وذلك لأن مثل هذه التصرفات تكون للدوام، فهو دليل على إعراض الموصي عن وصيته ، بالإضافة إلى أن فيه تغيير الاسم الموصى به.

        الثالث: رهن الموصى به:

        إذا أوصى بشيء ثم رهنه، فقد اختلف العلماء في كون ذلك رجوعا في الوصية على قولين:

        [ ص: 481 ] القول الأول: أن رهن الموصى به يعتبر رجوعا في الوصية.

        قال به الحنفية ، والشافعية ، وهو الصحيح من المذهب عند الحنابلة .

        جاء في الفتاوى الهندية: « (ولو أوصى بعبده ثم رهنه ، يكون رجوعا ) » .

        وقال الجلال المحلي في شرحه على منهاج الطالبين: « له الرجوع عن الوصية وعن بعضها بقوله نقضت الوصية، أو أبطلتها، أو رجعت فيها، وكذا هبة أو رهن له مع قبض، وكذا دونه في الأصح; لظهور صرفه بذلك عن جهة الوصية » .

        وقال المرداوي في الإنصاف: « قوله: وإن باعه، أو وهبه، أو رهنه كان رجوعا... على الصحيح من المذهب » .

        القول الثاني: أن رهن الموصى به لا يعتبر رجوعا في الوصية.

        قال المالكية ، وهو وجه عند الشافعية ، ووجه عند الحنابلة .

        [ ص: 482 ] الأدلة:

        دليل القول الأول:

        أن في رهن الموصى به تعريضا له للبيع، بل إن الموصي علق به حقا يجوز بيعه، فكان أعظم من عرضه للبيع، ولظهور صرف الموصي بذلك عن جهة الوصية.

        دليل القول الثاني:

        أن اسم الموصى به باق، وصورته باقية مع بقائه على ملك الموصي.

        الترجيح:

        الراجح - والله أعلم - هو القول الأول; وذلك لأن تصرف الموصي في الوصية بالرهن يدل على إعراضه عنها.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية