الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        المطلب الثاني

        حكم الوصية بأزيد من الثلث بعد وقوعها

        للعلماء في هذه المسألة ثلاثة مذاهب:

        القول الأول: أنها صحيحة، موقوفة على إجازة الورثة، فإن أجازوها جازت، وإن ردوها ردت، وإن اختلفوا فردها بعض وأجازها بعض آخر، فإن من أجازها تلزمه الزيادة بقدر نصيبه ، ومن ردها لا يلزمه من الزيادة شيء.

        وهو قول جمهور أهل العلم.

        القول الثاني: أنها وصية باطلة، ولا تجوز بإجازة الورثة، إلا أن يعطوه من مالهم.

        [ ص: 74 ] وهو رأي المزني من الشافعية ، وابن الماجشون من المالكية ، وقول الظاهرية .

        القول الثالث: أنها باطلة، إلا أن يجيزها الورثة، فتصح وتلزم.

        وبه قال المالكية .

        وسبب الخلاف أمران:

        الأول: اختلاف الأصوليين في دلالة النهي على الفساد وعدمه.

        فمن رآه يدل على الفساد مطلقا قال: ببطلانها ; لأنه -صلى الله عليه وسلم- نهى عنها، والنهي للفساد.

        ومن رآه لا يدل على الفساد مطلقا، أو لا يدل عليه إذا كان الأمر خارجيا قال: بصحتها، ووقفها على إجازة الورثة; لأن النهي هنا لحق الورثة.

        السبب الثاني: وهو اختلافهم في حكمة منع الوصية بأكثر من الثلث ، فمن قال: المنع تعبدي قال: لا تصح، ومن رآه معقول المعنى وهو حق الورثة قال: بصحتها، ووقفها على إجازة الوارثين.

        الأدلة:

        أدلة القول الأول:

        استدل لهذا الرأي بما يلي:

        1 - حديث سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه-، وفيه قوله -صلى الله عليه وسلم-: إنك إن تدع ورثتك أغنياء، خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس ، الحديث.

        [ ص: 75 ] وجه الدلالة: أن المنع من الزيادة على الثلث من أجل الورثة; لقوله -صلى الله عليه وسلم-: إنك إن تذر ورثتك أغنياء، خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس .

        وأيضا: فإن كلمة « إن » نص ظاهر في التعليل.

        كما أنه ظاهر في أن المقصود بالورثة الورثة الخاصة غير بيت المال، ألا ترى إلى قول سعد رضي الله عنه: لا يرثني إلا ابنة لي ، وإلى قوله -صلى الله عليه وسلم-: « ورثتك » بالإضافة للمخاطب، وإلى قوله: « يتكففون الناس » ، فإن ذلك كله يدل على أن المقصود بالورثة غير بيت المال، وأن بيت المال غير وارث; لأن بيت المال لا يتكفف.

        2 - قول ابن مسعود -رضي الله عنه- لبعض أهل الكوفة: « إنكم من أحرى بالكوفة أن يموت أحدكم فلا يدع عصبة ولا رحما، فلا يمنعه إذا كان كذلك أن يضع ماله في الفقراء والمساكين » .

        وجه الدلالة: أن ابن مسعود -رضي الله عنه- يرى المنع لحق الوارث، فإذا لم يكن له وارث، كان له الحق في أن يوصي ولو بماله كله، في وجوه البر والخير.

        3 - أن حق الورثة تعلق بماله; لانعقاد سبب الزوال إليهم وهو استغناؤه عن المال، إلا أن الشرع لم يظهر في حق الأجانب بقدر الثلث ليتدارك تقصيره.

        4 - ما تقدم من الأدلة على منع الوصية لوارث.

        أدلة القول الثاني:

        استدل لهذا الرأي بما يلي:

        1 - حديث عمران بن حصين -رضي الله عنه-: أن رجلا أعتق ستة مملوكين له عند [ ص: 76 ] موته، لم يكن له مال غيرهم، فدعا بهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، فجزأهم أثلاثا، ثم أقرع بينهم، فأعتق اثنين، وأرق أربعة، وقال له قولا شديدا .

        وجه الاستدلال: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يجز تبرعه بما زاد عن الثلث، ولم ينقل أنه راجع الورثة، فدل على منعه مطلقا، والوصية تبرع فتقاس على العتق.

        ويمكن مناقشته: بأنه يحتمل أنه لم يكن له وارث، فرده النبي -صلى الله عليه وسلم- نظرا لبيت مال المسلمين، أو أن الوارث لا يجيز ذلك ولا يرضاه، وهذا في الغالب.

        2 - حديث سعد رضي الله عنه، وقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: الثلث والثلث كثير .

        ونوقش: بأن حديث سعد -رضي الله عنه- لا يقتضي بطلان الوصية ; لأنه -صلى الله عليه وسلم- بين علة النهي، وهو أن المنع لحق الورثة حتى يستعينوا بما يتركه من مال عن سؤال الناس، وهذا استدعى عدم جواز التصرف في هذا الحق ما دام صاحبه متمسكا به، أما إذا تنازل عنه وطابت به نفسه ، فلا مانع من إنفاذه; لأنه أسقط حقه بنفسه.

        3 - ما رواه أبو الدرداء -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم عند وفاتكم زيادة في حسناتكم .

        وجه الدلالة: قوله -صلى الله عليه وسلم-: « بثلث أموالكم » يدل على أنه لا حق لنا في الزائد عليه.

        ونوقش: بعدم ثبوت الحديث.

        [ ص: 77 ] 4 - ما رواه البخاري عن ابن عباس -رضي الله عنه- قال: لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع، فإن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: الثلث، والثلث كثير ، فكيف بالزيادة.

        ونوقش: بما نوقش به حديث سعد السابق -رضي الله عنه-.

        5 - أن المنع من الوصية للوارث أمر تعبدنا الله به على لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وليس للورثة أن يجيزوا ما أبطله الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-.

        ونوقش: بأنه غير مسلم; فلا يسلم من أن المنع من الوصية للوارث أمر تعبدي; إذ إن أحكام المعاملات شرعها الله لمصالح ومقاصد تعود بالخير، والنفع على العباد.

        وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يأذن له في التبرع بأكثر من الثلث، لأجل الورثة.

        والراجح في نظري هو القول الأول; وذلك لأن المنع من الزيادة عن الثلث لأجنبي إنما هو لأجل حق الورثة ، فإذا رضي الورثة بذلك فقد رضوا بإسقاط حقهم; لقوة ما استدلوا به، ولأن هذا هو فهم السلف، كما تقدم عن ابن مسعود رضي الله عنه، ولما روى ابن سيرين عن عبيدة السليمان قال: « إذا مات الشخص وليس عليه عقد ولا حد ولا عصبة يرثونه، فإنه يوصي بماله كله حيث شاء » ، والله تعالى أعلم.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية