الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        [ ص: 497 ] المبحث التاسع

        المبطل التاسع: جعل الموصى به بعينه لآخر

        وتحته مطالب:

        المطلب الأول: أن يكون مع عدم إلغاء الوصية الأولى

        مثل: الوصية لأحدهما بهذه الأرض أو بدينه الذي له على فلان، ثم يوصي للثاني بنفس الأرض، أو الدار، أو السيارة، أو الدين الذي أوصى به للأول، دون إلغاء الوصية الأولى، وقد اختلف فيها الفقهاء على قولين:

        القول الأول: أنهما يشتركان في الموصى به المعين، ويقسم بينهما نصفين إذا حمله الثلث، أو أجازها الورثة، وإلا فما حمله الثلث.

        وهو قول جمهور أهل العلم: الحنفية ، والمالكية، والشافعية ، [ ص: 498 ] والحنابلة ، وبه قال الثوري، وإسحاق، وابن المنذر.

        قال الكاساني في بدائع الصنائع: « إذا قال: أوصيت بثلث مالي لفلان ثم قال: أوصيت بثلث مالي لفلان آخر ممن تجوز له الوصية، فالثلث بينهما نصفان » .

        وقال الباجي في المنتقى: « ومن أوصى بعبده ميمون لزيد، ثم أوصى به لعمرو، ولم يذكر رجوع عن الوصية الأولى، فإنه يكون بينهما بنصفين ، رواه ابن عبدوس عن مالك، وابن القاسم، وأشهب، وكذلك لو كانت دارا لكانت بينهما، أو ما حمله الثلث منها » .

        وقال الشربيني في مغني المحتاج: « ولو أوصى لزيد بمئة، ولعمرو بمئة، ثم قال لآخر: أشركتك معهما، أعطي نصف ما بيدهما، ولو أوصى بعين لزيد ثم أوصى بها لعمرو، لم يكن رجوعا عن وصيته; لاحتمال إرادة التشريك، فيشرك بينهما، كما لو قال دفعة واحدة: أوصيت بها لكما، لكن لو رد أحدهما الوصية في الأولى، كان الكل للآخذ، بخلافه في الثانية، فإنه يكون له النصف فقط ; لأنه الذي أوجبه له الموصي صريحا بخلافه في الأولى » .

        وقال ابن قدامة في المغني: « قال: (وإذا أوصى بجارية لبشر، ثم أوصى بها لبكر، فهي بينهما ) وجملة ذلك: أنه إذا أوصى لرجل بمعين من [ ص: 499 ] ماله، ثم وصى به لآخر، أو وصى له بثلثه، أو وصى بجميع ماله لرجل، ثم وصى به لآخر، فهو بينهما، ولا يكون ذلك رجوعا في الوصية الأولى » .

        وصورة ذلك: أن يوصي شخص لآخر بمعين من ماله، ثم يوصي به لآخر.

        القول الثاني: أن ذلك يعتبر رجوعا عن الوصية الأولى، فتكون الوصية للموصى له الثاني، وهو وجه عند الشافعية ، ورواية عن الإمام أحمد، وقال به جابر بن زيد، والحسن، وعطاء، وطاوس، وداود.

        قال ابن قدامة في المغني بعد ذكر القول الأول: « ... وقال جابر بن زيد، والحسن، وعطاء، وطاوس، وداود: وصيته للآخر منهما ; لأنه وصى للثاني بما وصى به للأول، فكان رجوعا » .

        الأدلة:

        أدلة القول الأول: (الاشتراك ) :

        ا - أن الأصل في الوصية بشيء لإنسان ثم الوصية به لآخر هو الإشراك; لأن فيه عملا بالوصيتين بقدر الإمكان، والأصل في تصرف العاقل صيانته عن الإبطال ما أمكن، وفي الحمل على الإشراك عمل بكل واحد منهما من وجه، فيحمل عليه ما أمكن.

        2 - أن الموصي وصى لهما بهذه الوصية فاستويا فيها ، كما لو قال لهما: وصيت لكما بالدابة.

        [ ص: 500 ] 3 - أنه يحتمل أن الموصي لم يرد بطلان الوصية الأولى، بدليل أنه لم يذكرها في الثانية; إذ يحتمل أنه نسيها، فاستصحبناها بقدر الإمكان صونا لها من الإلغاء.

        4 - القياس على ما إذا قال شخص لشخصين في وقت واحد: أوصيت لكما بثلث مالي، أو قال: أوصيت بعبدي هذا لزيد، وأوصيت به لعمرو، فإنه يكون بينهما إجماعا فكذلك هنا; إذ لا فرق بين اقتران الوصيتين وبين افتراقهما.

        5 - أنه يمكن أن تكون الوصية الثانية رجوعا، ويمكن أن تكون بنسيان الأولى; فيحتمل أن يقصد بها التشريك بين الأول والثاني، فوجب حملها مع هذا الاحتمال على التشريك بينهما ; لاستوائهما في الوصية لهما، لاسيما وأن المحل يحتمل الشركة، واللفظ صالح لهما.

        6 - أن الموصي إذا لم يذكر رجوعا عن الوصية الأولى لم يجز أن يكون جميع الموصى به لكل واحد منهما، وليس أحدهما أولى به من الآخر، فلم يبق إلا أن يكون بينهما لتساويهما في سبب الاستحقاق، وهو الوصية به.

        وحجة القول الثاني:

        1 - القياس على النصين المتعارضين، فإن الثاني المتأخر ينسخ المتقدم.

        ونوقش: بأن النسخ لا يصار إليه إلا مع تعذر الجمع، وهنا أمكن بقسمة الوصية بين الموصى لهم.

        [ ص: 501 ] أن الموصي وصى للثاني بما وصى به للأول، فكان رجوعا، كما لو قال: ما وصيت به لزيد فهو لبكر.

        ونوقش: بأن الصورة التي قاسوا عليها، ورد فيها تصريح بالرجوع عن وصيته لزيد، فكان بينهما فرق.

        3 - أن الوصية الثانية تنافي الأولى، فإذا أتى بها كان رجوعا، كما لو قال: هذا لورثتي، حيث يكون ذلك رجوعا.

        ونوقش من وجهين:

        الوجه الأول: أن الوصية الثانية لا تنافي الأولى، حيث يمكن الجمع بينهما، وتصحيح كلام الموصي، والأصل تصحيح كلام العاقل ما أمكن، وكلام الموصى يحتمل التشريك، فلم تبطل وصية الآخر بالشك.

        الوجه الثاني: أنه يحتمل أن يكون قصد الجمع والتشريك دون الرجوع، حيث ملك كل واحد منهما جميع العين عند الموت، ولا يمكن أن تكون جميعها لكل واحد منهما فتنزل الوصية منزلة ما لو قال دفعة واحدة: أوصيت لكما بهذه العين.

        4 - القياس على ما لو وهب مالا لزيد، ثم وهبه لعمرو قبل القبض، فإن ذلك يكون رجوعا، فكذا هنا.

        ونوقش هذا الاستدلال: بعدم التسليم، فالهبة تلزم بالعقد، وعلى التسليم فإنه قياس مع الفارق ; لأن لزوم الهبة بالقبض، فإذا وهبها قبل القبض علم [ ص: 502 ] رجوعه، بينما لزوم الوصية بعد الموت، فإذا أوصى لزيد ثم لعمرو فيصار إلى التشريك; إذ المحل قابل للشركة.

        الترجيح:

        الراجح - والله أعلم - هو القول الأول، وهو أن ذلك لا يعد رجوعا ; وذلك لقوة دليله، وورود المناقشة على أدلة القول الثاني، ولأن إعمال كلام المكلف أولى من إهماله.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية