الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        دليل القول الأول: استدل لهذا الرأي بما يلي:

        1 - قوله تعالى: وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ، فالآية نص في عدم مؤاخذة المخطئ بخطئه ، ولو أبطلت الوصية للقاتل خطأ; لكان مؤاخذة له بخطئه.

        2 - حديث: رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقل ، وهو يقتضي عدم تكليفهما بما [ ص: 541 ] يصدر عنهما في حال الصغر والجنون، فلا تبطل الوصية بقتلهما ; لما في ذلك من مؤاخذتهما بفعلهما.

        ونوقش هذا الاستدلال: بأن القتل مانع، والمانع يستوي فيه المكلف وغيره; لأنه من خطاب الوضع الذي لا يشترط في التكليف.

        3 - أدلة الإذن في القتل الحق; لأن الاستثناء من النفي إثبات، والإذن في الشيء يدل على مشروعيته، وصحته عند وقوعه، وعدم المعاقبة على فعله ، فلو حرم القاتل بحق من الوصي لكان ذلك معاقبة له عليه، والعقوبة على الشيء تقتضي تحريمه فيلزم اجتماع الضدين: الإذن في القتل، والنهي عنه وهو محال.

        (209 ) 4 - وما رواه البخاري من طريق عكرمة، ومسلم من طريق ثابت مولى عمر بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-، قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: من قتل دون ماله فهو شهيد .

        فلو حرم الدافع عن وصيته بسبب قتله الموصي أثناء دفاعه لكان ذلك عقابا يقتضي تحريمه، فيجتمع الأمر بالقتل والنهي عنه، وهو لا يجوز.

        5 - عموم أدلة الوصية، فإنها تعم القاتل وغيره.

        خرج منها قاتل العمد العدوان إذا كان مكلفا; لاتهامه بقصد استعجال الوصية قبل وجوبها، فعوقب بحرمانه منها، فيبقى من عداه داخلا في النص مشمولا له; لانتفاء هذه العلة، والعام المخصوص حجة في الباقي، كما أن الحكم يدور مع علته وجودا وعدما، وهذه الحالات التهمة فيها منتفية.

        [ ص: 542 ] 6 - ووجه القول ببطلانها إذا لم يعلم الموصي بقاتله هو قاعدة: أن من استعجل شيئا قبل أوانه عوقب بحرمانه.

        وأما سبب الخلاف إذا علم ولم يغير وصيته، فهو الخلاف في السكوت، هل يدل على الرضا أم لا؟ فمن اعتبره دالا على الرضا قال: سكوته بعد علمه بقاتله دليل على رضاه ببقاء وصيته له، وعدم رجوعه، أو هو بمنزلة الوصية له بعد الجرح.

        ومن اعتبره لا يدل على الرضا قال ببطلانها، إلا أن ينشئ وصية جديدة لبطلان الأولى بالقتل العمد العدوان، ورأى السكوت غير كاف في الدلالة على الرضا ببقاء وصيته الأولى له.

        7 - وحجة القول بصحتها في حالة العلم بقاتله: هو عموم أدلة الوصية ، وعموم قوله تعالى: فمن بدله بعدما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه ، وإبطال الوصية تبديل لها، فلا يجوز إلا بدليل خاص يصلح أن يكون مخصصا لهذه العمومات.

        8 - أن تأخر الوصية عن الجرح ينفي عن الجارح تهمة استعجال الشيء قبل أوانه، فلا تشمله القاعدة السابقة.

        9 - أن الوصية بعد الجرح صدرت من أهلها في محلها، ولم يطرأ عليها ما يبطلها، بخلاف ما إذا تقدمت، فإن القتل طرأ عليها فأبطلها ; لأنه يبطل ما هو آكد منها، يحققه أن القتل إنما منع الميراث، لكونه بالقتل استعجل الميراث الذي انعقد سببه فعورض بنقيض قصده، وهو منع الميراث، دفعا لمفسدة قتل الموروثين، ولذلك بطل التدبير بالقتل الطارئ عليه أيضا، وهذا المعنى متحقق في القتل الطارئ على الوصية، فإنه ربما استعجلها بقتله ، [ ص: 543 ] وفارق القتل قبل الوصية، فإنه لم يقصد به استعجال مال، لعدم انعقاد سببه ، والموصي راض بالوصية له بعد صدور ما صدر منه في حقه.

        10 - أنه إذا كان الجرح بعد الوصية، فالظاهر ندم الموصي على وصيته ورجوعه عنها، فحمل على ذلك، وإن لم يصرح بالرجوع، بخلاف الجرح قبل الوصية، فالظاهر أنه أوصى له بقصد مقابلة السيئة بالحسنة.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية