الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        [ ص: 513 ] المبحث الثالث عشر

        المبطل الثالث عشر، الجنون إذا طرأ بعد صدور الوصية

        اختلف العلماء -رحمهم الله- في حكم الوصية إذا طرأ على الموصي جنون على قولين:

        القول الأول: عدم بطلان الوصية بجنون الموصي.

        وهو مذهب المالكية ، والشافعية ، والحنابلة .

        القول الثاني: بطلان الوصية بالجنون المطبق. وهو مذهب الحنفية .

        وفي قول لهم: الأمر موقوف على نظر القاضي: إن أجازها نفذت وإلا فلا.

        واختلفوا في ضابط المجنون المطبق: فقال أبو يوسف: ما امتد شهرا فأكثر.

        وقال محمد بن الحسن: ما امتد سنة فأكثر، وفي قول لهم: ما امتد ستة أشهر.

        [ ص: 514 ] الأدلة:

        أدلة الرأي الأول: (عدم البطلان ) :

        1 - حديث: رفع القلم عن ثلاثة :... وعن المجنون حتى يفيق ، فإنه يدل على اعتبار الجنون وقت التصرف، وعدم الاعتداد بالجنون الطارئ، وذلك من وجهين:

        الأول: التعبير بلفظ المجنون بصيغة اسم المفعول، والقاعدة الأصولية: أن اسم الفاعل والمفعول حقيقة في الحال، أي: حال التلبس بالوصف، فالمجنون المرفوع عنه القلم هو من كان في حال جنونه ساعة التصرف لا من جن مستقبلا ، فإن هذا لا يسمى مجنونا، فلا يشمله الحديث، وبالتالي لا يرفع عنه القلم، ولا يبطل تصرفه الواقع في حال إفاقته بطرو جنونه.

        الثاني: قوله: « حتى يفيق » يدل بمفهومه على الاعتداد بتصرفاته حال إفاقته، وهو عام فيمن بقي على إفاقته، وفيمن طرأ عليه الجنون بعد إفاقته ، عملا بقاعدة عموم المخالفة.

        2 - أن الوصية صدرت من أهل فلا تبطل بزوال الأهلية بعد ذلك، كالبيع والإجارة.

        ونوقش هذا الاستدلال: بأنه قياس مع الفارق; لأنه عقد البيع والإجارة يقع لازما ; لذا لم يؤثر فيه ما يطرأ عليه من زوال أهلية العاقد، وتنتقل به الملكية بمجرد العقد، وانتهاء خيار المجلس، أما الوصية فعقد جائز، لا تنتقل به الملكية إلا بعد الموت.

        أدلة القول الثاني: (البطلان ) :

        1 - قياس الوصية على الوكالة; إذ الوكالة تبطل بزوال أهلية الموكل بالجنون.

        [ ص: 515 ] ونوقش هذا الاستدلال: أن قياس الوصية على الوكالة غير مسلم; لأن الوكيل يستمد ولايته من ولاية موكله، فإذا زالت أهلية موكله، فقد زالت ولاية الوكيل، أما الموصي فإنه يستمد ولايته من نفسه لا من غيره.

        2 - أن من حق الموصي أن يبدل في وصيته ، أو يرجع عنها ما دام حيا، وهذا الجنون العارض قد فوت عليه حقا من حقوقه ، فتبطل وصيته.

        ونوقش: أن هذا التفويت لا يؤثر في الوصية; لأنه فعلها وهو أهل للتبرع.

        3 - أن الوصية عقد جائز، وغير لازم، فكان دوامه كابتدائه ، ولما كان المجنون غير أهل لإنشاء الوصية ابتداء; لعدم التمييز كان الجنون الطارئ كالجنون وقت العقد لا تصح الوصية معه; لاحتمال أنه لو أفاق من جنونه لرجع عن وصيته.

        4 - وفرقوا بين الجنون المطبق الذي أبطلوا به الوصية والجنون غير المطبق: بأن الجنون غير المطبق لا يزيل العقل بالإغماء والنوم، وهما لا يبطلان العقد إذا طرأ عليه.

        ونوقش: أن تسوية الحنفية بين الجنون الطارئ والجنون المقارن للعقد لا تصح، ومخالفة لعدة قواعد:

        الأولى: قاعدة: الشك في المانع لا يؤثر; لأن رجوعه إذا أفاق مجرد احتمال مشكوك فيه.

        الثانية: قاعدة الحكم يدور مع علته وجودا وعدما، فإنها تقتضي صحة وصية العاقل، لوجود العقل ساعة العقد.

        الثالثة: قاعدة المعتبر في العقود وقت إنشائها ، لا تبطل بما يطرأ عليها.

        [ ص: 516 ] الرابعة: قاعدة أن الدوام ليس كالابتداء.

        الترجيح:

        الراجح - والله أعلم - ما ذهب إليه الجمهور; لقوة دليله، ولما فيه من الجمع بين الأدلة.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية