الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        المسألة السادسة: إذا كانت الوصايا من حقوق الله تعالى متفاوتة:

        فتحتها أمران:

        الأمر الأول: أن يوصي بأداء الواجبات من الثلث، ويوصي معها بتبرعات.

        إذا أوصى شخص بأداء الواجبات من الثلث، وأوصى معها بتبرعات.

        وضاق عنها الثلث، ولم يجز الورثة الزائدة، ولم يكن الموصي قد رتب بينها [ ص: 365 ] - كما لو أوصى بزكاة وحج تطوع وصدقة - فقد اختلف الفقهاء -رحمهم الله- في طريقة توزيع الثلث على الوصايا على قولين:

        القول الأول: تقديم الواجبات، فإن فضل عنها من الثلث شيء فهو لوصايا التبرعات، وإلا بطلت الوصايا بالتبرعات.

        وهو قول الحنفية ، والمالكية ، ووجه عند الشافعية ، والمذهب عند الحنابلة .

        القول الثاني: أن الثلث يقسم بين الوصايا كلها - الواجب والتبرع - بالحصص، وما بقي من الواجب تمم من رأس المال.

        وهو وجه عند الشافعية ، وقول عند الحنابلة .

        الأدلة:

        أدلة القول الأول: أولا: الأدلة على تقديم الواجبات على التبرعات ما يأتي:

        الدليل الأول: أن الواجبات آكد من التبرعات فتقدم عليها ; لأن التأكيد له أثر.

        [ ص: 366 ] الدليل الثاني: أن الواجبات تخرج صاحبها عن العهدة، والنوافل تحصل له زيادة الثواب، والأول أولى فيقدم.

        الدليل الثالث: أن الدين تجب البداءة به قبل الميراث والتبرع، فإذا عينه في الثلث وجب البداية به، وما فضل للتبرع.

        ثانيا: الدليل على كون الفاضل من الثلث لوصايا التبرعات:

        أن صاحب التبرع كان يستحق جميع ما أوصي له به لولا مزاحمة الواجب، فإذا زالت المزاحمة استحق الفضلة ; عملا بالوصية السالمة عن المزاحمة.

        ثالثا: الدليل على بطلان الوصايا بالتبرعات إذا لم يفضل من الثلث شيء:

        أنها لم تصادف محلا، أشبه من وصي له بشيء، فلم يخلف الميت شيئا.

        دليل القول الثاني: دليل القول بقسمة الثلث بين الوصايا كلها بالحصص:

        القياس على قسمة الثلث بين الموصى لهم من العباد على قدر سهامهم إذا ضاق عنها الثلث، ولم يجز الورثة ما زاد عنه ; وذلك لاستواء الواجبات والتبرعات في الوصية بها.

        [ ص: 367 ] ويتمم الواجب من رأس المال ; لأنه لا بد من وفائه ، ولم يبق من الثلث ما هو محل له.

        ونوقش: بأن هذا يدخله الدور; لأنه لا يعلم قدر الثلث حتى يعلم ما تتمة الواجب، ولا يعلم تتمة الواجب حتى يعلم ما يستحقه بالمزاحمة، ولا يعلم ما يستحقه بالمزاحمة حتى يعلم الثلث، وإذا دخله الدور، فإنه لا يصح.

        الترجيح:

        الأرجح - والله أعلم - القول الأول; لقوة الأدلة التي استدلوا بها، وسلامتها من الاعتراض، مع ضعف دليل القول الآخر لما ورد عليه من المناقشة، وأن هذا القول فيه انضباط يؤدي إلى سهولة التطبيق بخلاف القول الآخر.

        الأمر الثاني: أن يوصي بأداء الواجبات، ويوصي معها بتبرعات، ولا ينص على إخراج الواجبات من الثلث.

        ينبني الكلام في هذه الحالة على ما تعتبر منه الوصايا إذا كانت كلها واجبات، وأطلق الموصي الوصية، ففيها خلاف - بين الفقهاء -رحمهم الله - على قولين:

        القول الأول: اعتبار الواجبات من رأس المال، قال بإخراجها قبل التبرعات، ويكون للتبرعات ثلث الباقي.

        [ ص: 368 ] وهو الصحيح عند الشافعية ، وقول عند الحنابلة .

        القول الثاني: اعتبار الواجبات من الثلث قال بإخراجها قبل التبرعات، فإن فضل عنها من الثلث شيء فهو لوصايا التبرعات، وإن لم يفضل شيء سقطت الوصايا بالتبرعات.

        وهو قول الحنفية ، والمالكية ، ووجه عند الشافعية .

        الأدلة:

        دليل القول الأول:

        دليل القول بإخراج الواجبات قبل التبرعات، وأن للتبرعات ثلث الباقي:

        أن الواجبات يجب إخراجها من رأس المال; لما تقدم، فيكون جميع ماله الذي يملك التصرف في ثلثه الباقي بعد أداء الواجبات، وإذا كان الباقي بعد أداء الواجبات هو جميع ماله وجب اعتبار الثلث منه.

        دليل القول الثاني:

        أولا: الدليل على اعتبار الواجبات من الثلث: ما تقدم من اتهام الموصي على الورثة.

        [ ص: 369 ] ونوقش: بما ذكر سابقا من أن هذا استدلال بالمعقول في مقابلة النصوص السابقة، فلا تقوم به حجة.

        ثانيا: الدليل على إخراج الواجبات قبل التبرعات، فإن فضل عنها من الثلث شيء فهو لوصايا التبرعات، وإن لم يفضل شيء سقطت الوصايا بالتبرعات.

        ما تقدم في الحالة الأولى.

        الترجيح:

        الراجح - والله أعلم - القول الأول; لقوة الأدلة التي استدلوا بها وسلامتها من الاعتراض، مع ضعف دليل المخالف لما ورد عليه من المناقشة.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية