الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        المطلب السادس

        المحاصة عند تزاحم دين الله، ودين الآدمي بتركة الميت

        ديون العباد، وديون الله إذا تعلقت بالتركة، فإن كانت تكفي للدينين وفيت الديون جميعا.

        جاء في مواهب الجليل نقلا عن ابن رشد قوله: « أما الحقوق التي ليست بمعينات - الديون المرسلة - فإن كان في التركة وفاء بها أخرجت كلها، وإن لم يكن فيها بدئ بالأوكد فالأوكد منها، وما كان بمنزلة واحدة تحاصوا في ذلك » .

        [ ص: 370 ] قال البهوتي: « فإن كان معها - أي: الزكاة ونحوها - من ديون الله تعالي دين آدمي بلا رهن، وضاق ماله - أي: الميت - اقتسموا التركة بالحصص كديون الآدميين إذا ضاق عليها المال إلا إذا كان به - أي: دين الآدمي - رهن، فيقدم الآدمي بدينه من الرهن » .

        وقال أيضا: « ويبدأ منها - أي: الديون - بالمتعلق بعين المال كدين برهن، وأرش جناية برقبة الجاني ونحوه، ثم الديون المرسلة في الذمة سواء كانت الديون لله تعالي كزكاة المال... أو كانت لآدمي كالديون من قرض... فإن ضاق المال تحاصوا » .

        أما إذا ضاقت التركة عن الدينين، فننظر في ديون العباد: فإن كانت متعلقة بالعين، أو أخذ عليها رهن ونحوه قدمت على ديون الله، وأما إذا كانت ديون العباد مرسلة غير متعلقة بالذمة ، فقد اختلف العلماء في ذلك:

        القول الأول: تقديم ديون العباد على ديون الله، فتؤدى ديون العباد، ثم بعد ذلك ديون الله. وهو مذهب المالكية .

        [ ص: 371 ] .............................................

        [ ص: 372 ] ..............................................

        [ ص: 373 ] وقول عند الحنابلة في حالة إذا لم يتعلق دين الله بالذمة.

        القول الثاني: أن ديون الله تسقط بالموت، وحينئذ تقدم ديون العباد، إلا إذا أوصى الميت بهذه الديون، فتخرج حينئذ من ثلث ماله. وهو مذهب الحنفية .

        القول الثالث: تقديم ديون الله على ديون العباد. وهو مذهب الشافعية ، [ ص: 374 ] والظاهرية ، وقول عند الحنابلة .

        القول الرابع: أنه إذا كانت هناك ديون لله وديون للعباد وضاقت عنها التركة، فتقسم التركة بين الدينين بالمحاصة.

        وهو المذهب عند الحنابلة .

        [ ص: 375 ] الأدلة:

        أدلة القول الأول:

        (238 ) 1 - ما رواه البخاري من طريق يزيد بن أبي عبيد، عن سلمة بن الأكوع -رضي الله عنه-، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أتي بجنازة ليصلي عليها فقال: « هل عليه من دين؟ قالوا: نعم، قال: صلوا على صاحبكم، قال أبو قتادة: علي دينه يا رسول الله » .

        ففي حديث سلمة بن الأكوع -رضي الله عنه-: دليل على أن ديون الخلق تقدم على ديون الله; لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما سأل عن الميت هل عليه دين؟ أجاب أبو قتادة فقال: نعم عليه ديناران، ولم يقل النبي -صلى الله عليه وسلم-: هل عليه دين لله من زكاة ونحوها.

        2 - أن نفوس الآدميين أشح، والله تعالى بحقوقه أسمح، ولذلك جعل لها أبدالا، وأسقطها بالشبهات، فتقدم حقوق العباد على حقوق الله ، وأشار إلى هذا المعنى ابن رجب رحمه الله - .

        3 - أن مستحقيها متعينون، وحقوق الله تعالى لا يتعين مستحقها، وما تعين مستحقه أوكد » .

        أدلة القول الثاني:

        (239 ) 1 - ما رواه مسلم من طريق مطرف، عن أبيه قال: أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يقرأ ألهاكم التكاثر قال: « يقول ابن آدم: مالي مالي - قال - وهل [ ص: 376 ] لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت؟ » ، وفي رواية: وما سوى ذلك فهو ذاهب، وتاركه للناس .

        قال السرخسي: « وهذا يقتضي أن ما لم يمضه من الصدقة يكون مال الوارث بعد موته، وبه علل في الكتاب ، قال: لأنها خرجت من ملكه الذي كان له يعني أن المال صار ملك الوارث، ولم يجب على الوارث شيء ليؤخذ ملكه به; وهذا لأن حقوق الله تعالى مع حقوق العباد إذا اجتمعا في محل، تقدم حقوق العباد على حقوق الله » .

        2 - أن الركن في العبادات نية المكلف، وفعله قد فات بموته، فلا يتصور بقاء الواجب; لأن الآخرة ليست بدار ابتلاء حتى يلزمه الفعل أو تركه، أما دين العباد فيلزمه ; لأن الفعل ليس بمقصود فيه ولا نيته غير أنه إذا أوصى بالدين الذي لله قام مقام فعل الوارث ; لوجود اختياره بالإيصاء، فيخرج من الثلث » .

        أدلة القول الثالث: 1 - قول الله تعالى: من بعد وصية يوصى بها أو دين .

        (240 ) 2 - وما رواه البخاري ومسلم من طريق مسلم البطين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ، فقال: يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم شهر، أفأقضيه عنها؟ قال: نعم، قال: فدين الله أحق أن يقضى .

        [ ص: 377 ] قال ابن حزم: « وإذا قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فالله أحق بالوفاء، ودين الله أحق أن يقضى، فلا يحل أن يقضى دين آدمي حتى تتم ديون الله -عز وجل- » .

        ونوقش هذا الاستدلال: يحمل الحديث على حالة إذا لم يكن هناك دين لآدمي، وتأكيدا حتى لا يتساهل الناس في ديون الله، كما أن ديون الخلق متقررة لديهم أنه لا بد من الوفاء بها.

        3 - ولأن دين الله واجب، والتبرعات والوصايا مستحبة، والواجب مقدم على المستحب.

        4 - ولأن مصرف حقوق الله للآدمي.

        5 - ولأن حقوق الله لا تسقط بالإبراء بخلاف حقوق الآدميين فهي تسقط بالإبراء.

        ونوقش: بأن حقوق الله وإن كانت لا تسقط بالإبراء في الدنيا، فقد تسقط بالإبراء في الآخرة; لسعة رحمة الله، والله أسمح بحقوقه، وهو غني عن عباده.

        6 - قال العز بن عبد السلام: « إن الزكوات فيها حق الله وحق الفقراء والمساكين، فكانوا أحق بالتقديم - أي: من ديون الآدميين - فلا يجوز تقديم واحد على حقين.... » .

        ونوقش هذا الاستدلال: أن يقال: في حقوق الله حقان، فكذا في حقوق الآدميين حقان، حق لله من حيث أنه سبحانه أمر بأدائها، وحق لآدمي من حيث الاستيفاء.

        [ ص: 378 ] استدل أصحاب القول الرابع:

        بعموم قول الله تعالى: من بعد وصية يوصى بها أو دين ، حيث سوى الله سبحانه بين ديون الآدمي ودين الله، ولم يقدم أحدهما على الآخر; لدخول الجميع في قوله تعالى: أو دين .

        الترجيح:

        يترجح - والله أعلم - قول المالكية ; لقوة الأصل الذي بنوا عليه قولهم; ولما جاء في حديث سلمة بن الأكوع الآنف الذكر.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية