الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        المطلب الرابع

        وقت اعتبار الثلث

        اتفق العلماء على أن المعتبر هو ثلث المال الباقي بعد مئون التجهيز، وقضاء الديون التي على الميت; للإجماع على تقديمها على الوصية، ولأنهما من رأس المال، كما دلت على ذلك السنة النبوية في قضائه -صلى الله عليه وسلم- بالدين قبل الوصية.

        قال ابن حزم: « أول ما يخرج من رأس المال دين الغرماء، فإن فضل منه [ ص: 85 ] شيء كفن منه الميت، وإن لم يفضل منه شيء كان كفنه على من حضر من الغرماء أو غيرهم...، فإن فضلت فضلة من المال كانت الوصية في الثلث فما دونه لا يتجاوز بها الثلث » .

        اختلف في هذه المسألة على ثلاثة أقوال:

        القول الأول: أن المعتبر وقت الموت.

        وهو قول الشافعية ، وبه قال الحنابلة ، وقال ابن قدامة: « لا أعلم فيه خلافا » .

        فيعطى ثلث التركة يوم الموت، أو ربعها إذا كانت الوصية بالثلث أو الربع، وهكذا ، ولا ينظر إلى ما كان يملكه يوم الوصية.

        وإذا كانت الوصية بمعين كدار، أو أرض، أو سيارة اعتبرت قيمته يوم الموت، فإذا كانت تخرج من الثلث يوم الموت نفذت الوصية، واستحق الموصى له وصيته، ولو صارت قيمته أكثر من الثلث بعد ذلك، كما أنه إذا هلك المال كله بعد الموت، وبقي الموصى به فقط، فإنه يعطى للموصى له، ولا شيء للورثة فيه ، فإذا أوصى بدار تساوي يوم الموت ألفا، وباقي التركة يساوي ألفين، فإن الدار كلها للموصى له; لخروجها من الثلث، فإذا ارتفعت قيمتها فصارت تساوي ألفين قبل القسمة، أو هلك بعض التركة، أو هبطت قيمتها ، فإن الدار للموصى له ; لأن المعتبر يوم الموت وكانت تساوي الثلث يومه.

        كما أنه إذا كانت يوم الموت تساوي ألفين، وباقي التركة يساوي ألفا، فإنه يعطى نصف الدار فقط، فإذا هبطت قيمتها، أو ارتفعت قيمة باقي [ ص: 86 ] التركة، فصارت تساوي الثلث لم يكن له إلا نصفها، اعتبارا بوقت الموت.

        وحجة هذا القول: أن الوصية تلزم بالموت، فكان المعتبر في الثلث هو وقت الوجوب.

        القول الثاني: المعتبر يوم الوصية، فإذا أوصى له بثلث ماله لم يعط إلا ثلث ما كان موجودا يوم الوصية، ولا شيء له مما تجدد بعدها، كما أنه إذا نقص ماله عما كان له يوم الوصية; فإنه لا يكون له إلا ثلث ما بقي بعد النقص، ولو عاد ماله إلى ما كان عليه يوم الوصية.

        وهو مذهب الظاهرية ، وأحد قولي الشافعية .

        وحجتهم: القياس على من نذر ثلث ماله، فإنه يلزمه ثلث ماله يوم النذر، فكذلك الوصية يلزمه ثلثه يوم الوصية.

        ونوقش الاستدلال: بأن النذر يلزم بالقول، والوصية تلزم بالموت، ولا تلزم بالقول فلا يصح قياسها عليه.

        القول الثالث: أن المعتبر يوم التنفيذ لا يوم الوصية، ولا يوم الموت.

        وهو قول الحنفية ، والمعتمد في مذهب مالك.

        فإذا كانت الوصية بجزء شائع، كثلث أو ربع أعطي ثلث المال، أو ربعه حسب وصيته يوم تنفيذ الوصية، ويوم القسمة زاد المال أو نقص.

        وأما إذا كانت الوصية بعدد معين اعتبر خروجها من الثلث يوم التنفيذ [ ص: 87 ] أيضا، فإذا كانت الوصية بمئة ألف، والتركة كلها ثلاثمئة ألف يوم الموت، فأصابتها آفة أو هبطت قيمتها، فصارت تساوي مئة وخمسين فقط، لم يكن للموصى له إلا خمسون فقط ; لأنه ثلث التركة يوم التنفيذ، ولا عبرة بما كانت عليه يوم الموت.

        وكذلك إذا أوصى بمعين قيمته يوم الموت خمسون، والتركة كلها مئة، ثم حصل فيها نمو، فصارت تساوي مئة وخمسين يوم التنفيذ، فإنه يعطى الموصى به بكامله لمن وصي له به; لأنه ثلث التركة يوم التنفيذ، وإن كان أكثر من الثلث يوم الموت; لأن العبرة بيوم التنفيذ.

        وحجته: أنه شريك في التركة بجزء شائع، يجري عليه ما يجري على الورثة ، فالزيادة لهم جميعا، والنقص عليهم جميعا.

        الترجيح:

        الراجح - والله أعلم - أن الوقت المعتبر بالثلث هو الموت; إذ بالموت تلزم الوصية، وتدخل التركة في ملك الورثة، ولأن الوصية تبرع بالمال بعد الموت، فيكون الموت هو المعتبر.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية