الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        المطلب الثاني

        وفاة الموصى له بعد وفاة الموصي

        فإن كان بعد قبوله، فبالاتفاق على أن الوصية تورث عنه ; لاستحقاقه لها بالقبول، ومن مات عن حق فلورثته.

        وأما من مات قبل القبول، فاختلف الفقهاء في ذلك على ثلاثة أقوال:

        القول الأول: أن حق القبول ينتقل للوارث، فإن شاء قبل، أو رد، ولا يبطل بموت الموصى له.

        ذهب إلى ذلك المالكية على الراجح عندهم، والشافعية ، والحنابلة في إحدى الروايتين، وهي المذهب.

        [ ص: 534 ] إلا أن المالكية استثنوا حالة واحدة: إذا كان الموصي يريد بوصيته عين الموصى له وشخصه، فإن الوصية تبطل بوفاته، وليس لوارثه القبول حينئذ.

        القول الثاني: أن حق القبول يبطل بموت الموصى له، فلا ينتقل للوارث، فتبطل الوصية، وتكون لورثة الموصي.

        ذهب إلى ذلك أبو بكر الأبهري من المالكية ، وهو وجه عند الشافعية ، والرواية الثانية عند الحنابلة .

        القول الثالث: أن حق القبول والرد يبطل بموت الموصى له، وتدخل الوصية في ملك الوارث، وليس له أن يرد.

        ذهب إلى ذلك الحنفية ، وهو قول عند المالكية ، ووجه عند الحنابلة .

        الأدلة:

        أدلة القول الأول:

        1 - أن القبول حق ثبت للمورث فثبت للوارث بعد موته ; لقوله -صلى الله عليه وسلم-: من ترك مالا فلورثته ، وكخيار الرد بالعيب.

        [ ص: 535 ] 2 - أن كل سبب استحق به المرء تملك عين بغير اختيار مالكها، لم يبطل بموته قبل تملكها، كالرد بالعيب.

        3 - أن الوصية عقد لازم من أحد الطرفين، فلم تبطل بموت من له الخيار، كعقد الرهن، والبيع إذا شرط فيه الخيار لأحدهما.

        4 - أن الوصية عقد لا يبطل بموت الموجب، فلا يبطل بموت الآخر، كالرهن والبيع.

        5 - وحجة المالكية على ما ذكروه من الاستثناء: القياس على الهبة إذا قصد بها عين الموهوب له، فإنها تبطل بموته قبل القبول.

        أدلة القول الثاني:

        1 - أن الوصية عقد يفتقر إلى القبول، فإذا مات من له القبول قبله بطل العقد، كالهبة.

        ونوقش هذا الاستدلال: بأن القياس على الهبة قياس مع الفارق; ذلك أن الهبة عقد جائز من الطرفين، ويبطل بموت الموجب له، بخلاف الوصية.

        2 - أن خيار القبول لا يتعارض عنه، فبطل بالموت كخيار المجلس، والشرط، وخيار الأخذ بالشفعة.

        ونوقش هذا الاستدلال: بأنه لا يصح القياس على الخيارات ; لأن موت [ ص: 536 ] الموصى له لم يبطل الخيار، ويجعل العقد لازما، بخلاف الخيارات فإنها إذا بطلت بالموت صار العقد لازما، لا باطلا.

        3 - أن الوارث إنما ينتقل إليه ما تحقق سببه، وها هنا السبب معدوم لعدم القبول.

        ونوقش هذا الاستدلال: بأن سبب استحقاق القبول هو الإيجاب، وقد تحقق، ويمكن أن يقال أيضا: إن الموروث هنا إنما هو حق التملك، وقد تحقق سببه وهو الإيجاب، وليس حق الملك حتى يشترط تحقق سببه وهو القبول، فبين المسألتين فرق - والله أعلم - .

        أدلة القول الثالث:

        1 - أن الوصية من جانب الموصي قد تمت بموته تماما، لا يلحقه الفسخ من جهته، وإنما توقفت لحق الموصى له، فإذا مات دخلت في ملكه كما في البيع المشروط فيه الخيار للمشتري إذا مات قبل الإجازة.

        ونوقش هذا الاستدلال: بأن الوصية عقد يفتقر إلى قبول المتملك، فلم يلزم قبل القبول كالبيع والهبة.

        2 - أن أحد الركنين من جانب الموصى له وهو القبول لا يشترط لعينه ، بل لوقوع اليأس عن الرد، وقد حصل ذلك بموت الموصى له.

        ونوقش هذا الاستدلال: بأن الموصى له إذا لم يملك إلا بالقبول، وهو أصل، فوارثه أولى أن لا يملك بغير قبول وهو فرع.

        [ ص: 537 ] 3 - أن القبول لما تعذر ممن له حق القبول سقط اعتباره لمكان العذر ، كما لو كانت الوصية للمساكين.

        ويناقش هذا الاستدلال: بأنه لا يسلم سقوط اعتبار القبول لمكان العذر كالبيع، وسائر العقود، ولا يصح القياس على الوصية للمساكين; لأنه لا يشترط القبول لصحة الوصية لغير معين بخلاف الوصية للمعين، فإن القبول شرط فيها.

        الترجيح:

        الراجح - والله أعلم - هو القول الأول; لقوة أدلته، وضعف أدلة القولين الآخرين بما ورد عليها من المناقشة، ولكونه وسطا بين القولين الآخرين.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية