الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        [ ص: 19 ] المبحث الثالث نماء الموصى به

        لنماء الموصى به بعد الوصية أحوال:

        الأولى: أن يحصل بعد الوصية وقبل الموت، فهو باق على ملك الموصي بغير خلاف; لأن الوصية لا تملك إلا بالموت أو القبول أو هما معا، وأما قبل الموت فلا عبرة بالقبول أو الرد; لأن أوان وجوب الوصية ما بعد موته.

        وثانيها: ما كان بعد القبول والقسمة فهو للموصى له اتفاقا; إذ إنه نماء ملكه فهو له.

        الثالثة: أن يكون وجوده بعد موت الموصي وقبل القبول، أو بعده وقبل القسمة.

        اختلفت العلماء في حكم نماء الموصى به بعد موت الموصي وقبل القبول، أو بعده وقبل القسمة على أقوال:

        القول الأول: إن نماء الموصى به بعد الموت، وقبل القبول للورثة، إن كان النماء منفصلا كولد الشاة ونحوه، وإن كان متصلا كالصوف على ظهرها ونحوه، فهو للموصى له; لأنه تابع للعين الموصى بها.

        وهو قول الحنابلة .

        [ ص: 20 ] وعلل ابن قدامة: « إنه تملك عين لمعين يفتقر إلى القبول، فلم يسبق الملك القبول، كسائر العقود، ولأن القبول من تمام السبب، والحكم لا يتقدم سببه ، ولأن القبول لا يخلو من أن يكون شرطا أو جزءا من السبب، والحكم لا يتقدم سببه ولا شرطه، ولأن الملك في الماضي لا يجوز تعليقه بشرط مستقبل » .

        القول الثاني: أن نماء الموصى به له حكم أصله، بمعنى أنه محكوم بالثلث، فإن خرج مع أصله من الثلث فهو للموصى له، وإلا فله ما خرج.

        وهو مذهب الحنفية ، والمالكية .

        فالحنفية هنا وإن قالوا: إن الوصية تملك بالقبول من حين الموت لكن هذه الملكية لا تتأكد إلا بعد القسمة، وعلى هذا فالتركة بعد الموت، وقبل القسمة مبقاة على ملك الميت، والنماء تابع لأصله، وأصله محكوم بالثلث، ولأن الملك في النماء بواسطة ملك الأصل مضاف إلى كلام سابق، فكأنه كان موجودا في ذلك الوقت، فكان له حكمه.

        وأما المالكية فيقولون: الملك للموصى له بمجرد الموت، وقبوله كاشف له، فيقوم الموصى به بنمائه الذي حصل بعد الموت، فإن حمله الثلث فله جميعه، وإلا فله ما حمل الثلث; وذلك أنه وإن كان الملك بالموت لكن [ ص: 21 ] العبرة بيوم التنفيذ، ولا يعد في التنفيذ الموت فقط، ولا القبول فقط، بل يراعى الأمران، أما الموت فلأن الملك للموصى له يكون بالموت، وأما القبول فلأنه شرط بعد الموت، وأمر آخر وهو أنهم جعلوا النماء جزءا من الأصول، فكأنه نماء حصل في ذات الأصول كطولها وعظم ذاتها لا أمر زائد عليها، فكان حكم النماء كحكم الأصل.

        وحجته: أن الوصية بالأصل تستتبع الوصية بالغلة، فإذا كان الموصى به وغلته يخرجان من الثلث أخذهما، وإذا كان الثلث يحمل الموصى به دون غلته، فإنه يعطى للموصى به كله لحمل الثلث له، كما يعطى ثلث غلته باعتبار أن الغلة موصى بها لا يحملها الثلث فيعطى ثلثها فقط.

        وابن القاسم - رحمه الله - : يفرق بين النماء بالولادة والنماء بالكسب والثمرة ... إلخ، فيقول في الأول كقول أكثر المالكية ، وهو أنه يقوم بأصله، فإن حمله الثلث فله جميعه، وإلا فله ما حمل الثلث، وأما النماء بالثمرة والكسب ...إلخ، فيقوم الأصل وحده عنده، فإن خرج من الثلث فنماؤه جميعا للموصى له، ولا يدخل هذا النوع من النماء تحت التقويم.

        القول الثالث: إن قبل الموصى له بان أنه ملك بالموت، وإلا بان للوارث.

        وهو الأظهر عند الشافعية .

        [ ص: 22 ] قال في مغني المحتاج: « وهل يملك الموصى له بموت الموصي أم بقبوله أم موقوف، فإن قبل بان أنه ملك بالموت، وإلا بان للوارث أقوال أظهرها الثالث، وعليها تبنى الثمرة، وكسب عبد حصلا بين الموت والقبول » .

        وقال في شرحه: « فعلى الأول والثالث للموصى له الفوائد وعليه المؤنة ، وعلى الثاني لا ولا، ولو رد فعلى الأول له وعليه ما ذكر، وعلى الثاني والثالث لا ولا » .

        والأقرب: القول الأول; إذ الوصايا معتبرة بالموت - كما تقدم - في وقت اعتبار الموصى له وارثا، أو غير وارث، ولأنها تبرع بالمال بعد الموت، لكن يظهر أنه لا فرق بين النماء المتصل والمنفصل، وأن الجميع للموصى له.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية