الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
2926 - "إياكم والكبر؛ فإن إبليس حمله الكبر على ألا يسجد لآدم ؛ وإياكم والحرص؛ فإن آدم حمله الحرص على أن أكل من الشجرة؛ وإياكم والحسد؛ فإن ابني آدم إنما قتل أحدهما صاحبه حسدا؛ فهو أصل كل خطيئة"؛ ابن عساكر ؛ عن ابن مسعود .

التالي السابق


(إياكم والكبر؛ فإن إبليس حمله الكبر على ألا يسجد لآدم ) ؛ فكان من الكافرين؛ قال ابن عطاء الله : كان الشاذلي يكرم الناس على نحو رتبتهم عند الله (تعالى)؛ حتى إنه ربما دخل عليه مطيع؛ فلا يهتبل به؛ وعاص؛ فأكرمه؛ لأن ذلك الطائع جاء وهو متكبر بعمله؛ والعاصي دخل بكثرة معصيته؛ وذلة مخالفته؛ ومن ثم قال بعض العارفين: العاصي الذليل الحقير؛ خير من الطائع المتكبر المعجب بنفسه؛ و"[رب] معصية أورثت ذلا واحتقارا؛ خير من طاعة أورثت عزا واستكبارا"؛ (وإياكم والحرص) ؛ وهو كما قال الماوردي : شدة الكد؛ والإسراف في الطلب؛ قال: وهو خلق يحدث عن البخل؛ (فإن آدم حمله الحرص على أن أكل من الشجرة) ؛ فأخرج من الجنة؛ فإنه حرص على الخلد في الجنة؛ فأكل منها بغير إذن ربها؛ طمعا فيها؛ فالحرص على الخلد أظلم عليه؛ فلو انكشفت عنه ظلمته؛ لقال: كيف أظفر بالخلد فيها مع أكلي منها بغير إذن ربي؛ ففي ذلك الوقت حصلت الغفلة منه؛ فهاجت من النفس شهوة الخلد فيها؛ فوجد العدو فرصته؛ فخدعه حتى صرعه؛ فجرى ما جرى؛ قال الخواص : الأنبياء قلوبهم صافية ساذجة؛ لا تتوهم أن أحدا يكذب؛ ولا يحلف كاذبا؛ فلذلك صدق من قال له: أدلك على شجرة الخلد؛ وملك لا يبلى؛ حرصا على عدم خروجه من حضرة ربه الخاصة؛ ونسي النهي السابق؛ فانكشف له ستر تنفيذ إحذار ربه؛ فكانت السقطة في استعجاله بالأكل من غير إذن صريح؛ فلذلك وصفه الله (تعالى) بأنه كان ظلوما جهولا؛ حيث اختار لنفسه حالة يكون عليها دون أن يتولى الحق (تعالى) ذلك؛ ولذلك قال: خلق الإنسان من عجل ؛ وكان الإنسان عجولا ؛ أهـ؛ قال العارف ابن أدهم : قلة الحرص والطمع؛ تورث الصدق والورع؛ وكثرة الحرص والطمع تورث الهم والجزع؛ قال الماوردي : الحرص والشح أصلا كل ذم؛ وسببا كل لوم؛ لأن الشح يمنع من أداء الحقوق؛ ويبعث على القطيعة والعقوق؛ فأما الحرص؛ فيسلب كل فضائل النفس؛ لاستيلائه عليها؛ ويمنع من العبادة لتشاغله عنها؛ ويبعث على التورط في الشبهات؛ لقلة تحرزه منها؛ فهذه ثلاث خصال؛ هن جامعات للرذائل؛ مانعات للفضائل؛ مع أن الحريص لا يستزيد بحرصه على رزقه سوى إذلال نفسه؛ وإسخاط خالقه؛ وقال بعض الحكماء: الحرص مفسدة في الدين؛ والمروءة؛ والله ما عرفت في وجه رجل حرصا فرأيت أن فيه مصطنعا؛ وقال آخر: المقادير الغالبة لا تنال بالمغالبة؛ والأرزاق المكتوبة لا تنال بالشدة؛ والمكالبة؛ وليس للحريص غاية مطلوبة يقف عنها؛ ولا نهاية محدودة يقنع بها؛ لأنه إن وصل بالحرص إلى ما أمله؛ أغراه ذلك بزيادة الحرص؛ والأمل؛ وإلا رأى إضاعة العناء لوما؛ والصبر عليه حزما؛ وصار لما سلف من عني به أقوى رجاء؛ وأبسط أملا؛ ولو صدق الحريص نفسه؛ واستنصح عقله؛ لعلم أن من تمام السعادة؛ وحسن التوفيق: الرضا بالقضاء؛ والقناعة بما قسم ؛ ( وإياكم والحسد؛ فإن ابني آدم ) ؛ قابيل؛ وهابيل ؛ (إنما قتل أحدهما صاحبه حسدا؛ فهو) ؛ أي: الكبر والحرص والحسد؛ (أصل كل خطيئة) ؛ فجميع الخطايا تنشأ عنها؛ و"الكبر": منازعة الذات المتعالية في الصفة التي لا يستحقها غيره؛ فمن نازعه إياها؛ فالنار مثواه؛ فعقوبة المتكبر في الدنيا المقت من أولياء الله؛ والذلة بين عباد الله؛ وفي الآخرة نار الله؛ و"الحرص": مسابقة قدر الله؛ ومن سابق القدر؛ سبق؛ [ ص: 132 ] وهو مغالبة الحق - تقدس -؛ ومن غالبه؛ غلب؛ فعقوبته في الدنيا الحرمان؛ وفي الآخرة النيران؛ و"الحسد": تسخط قضاء الله فيما لا عذر للعبد فيه؛ فعقوبته في الدنيا الغيظ الشديد؛ وفي الآخرة نار الوعيد؛ وخص هذه الثلاثة بالذكر؛ لأنها أصول الشر؛ قال الحرالي : أصول الشر ثلاثة: الكبر؛ الذي كان سبب بلاء إبليس؛ والحرص؛ الذي كان سبب بلاء آدم - عليه السلام - من الشجرة؛ والحسد؛ الذي كان سبب قتل قابيل؛ هابيل ؛ وقال أبو حاتم : أحبذ الموت خوفا من ثلاثة أشياء: الكبر؛ والحرص؛ والخيلاء؛ فإن المتكبر لا يخرجه الله من الدنيا حتى يريه الهوان من أرذل أهله؛ وخدامه؛ والحريص لا يخرجه من الدنيا حتى يحوجه إلى كسرة؛ أو شربة؛ والمختال لا يخرجه منها حتى يمرغه ببوله وقذره.

( ابن عساكر ) ؛ في التاريخ؛ (عن ابن مسعود ) .




الخدمات العلمية