الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
2656 - "إن أردت اللحوق بي؛ فليكفك من الدنيا كزاد الراكب ؛ وإياك ومجالسة الأغنياء؛ ولا تستخلقي ثوبا حتى ترقعيه"؛ (ت ك)؛ عن عائشة ؛ (صح) .

التالي السابق


(إن أردت) ؛ بكسر التاء؛ خطابا لعائشة ؛ (اللحوق بي) ؛ أي: ملازمتي في منزلتي في الجنة؛ قال في المصباح: "اللحوق": اللزوم؛ و"اللحاق": الإدراك؛ (فليكفك من الدنيا كزاد الراكب) ؛ فاعل "فليكفك"؛ أي: مثل الزاد للراكب؛ وهو في الأصل راكب الإبل خاصة؛ ثم أطلق على كل من ركب دابة؛ (وإياك) ؛ بكسر الكاف؛ (ومجالسة الأغنياء) ؛ أي: احذري ذلك؛ لأنه من مبادئ الطمع؛ وسبب لازدراء نعمة الله (تعالى)؛ لما يرى من سعة رزقهم؛ فهو أمر بالتقليل من الدنيا؛ والاكتفاء باليسير ؛ حتى يكون عيشه كما كانوا يعتادونه من الزاد الذي يتخذه المسافر؛ قال الثوري : إذا خالط الفقير الغني؛ فاعلم أنه مراء؛ وقال بعضهم: إذا مال الفقير إلى الأغنياء؛ انحلت عروته؛ فإذا طمع فيهم؛ انقطعت عصمته؛ فإذا سكن إليهم؛ ضل؛ (ولا تستخلقي) ؛ بخاء معجمة؛ وقاف؛ (ثوبا) ؛ أي: لا تعديه خلقا؛ من "استخلق"- نقيض "استجد"-؛ (حتى ترقعيه) ؛ أي: تخيطي على ما تخرق منه رقعة؛ قال القاضي البيضاوي : وروي بالفاء؛ من "استخلفه"؛ إذا طلب له خلفا؛ أي: عوضا؛ واستعماله في الأصل بـ "من"؛ لكنه اتسع فيه بحرفها؛ كما اتسع في قوله (تعالى): واختار موسى قومه ؛ انتهى؛ قال ابن العربي : ومعنى الحديث أن الثوب إذا خلق جزء منه؛ كان طرح جميعه من الكبر؛ والمباهاة؛ والتكاثر في الدنيا؛ وإذا رقعه؛ كان بعكس ذلك؛ وقد ورد أن عمر طاف وعليه مرقعة باثنتي عشرة رقعة فيها من أديم؛ ورقع الخلفاء ثيابهم؛ وذلك شعار الصالحين؛ وسنة المتقين؛ حتى اتخذه الصوفية شعارا؛ فرقعت الجديد؛ وأنشأته مرقعا؛ وذا ليس بسنة؛ بل بدعة عظيمة؛ وفعلة داخلة باب الرياء؛ وإنما قصد الشارع بالترقيع استدامة الانتفاع بالثوب على هيئته؛ حتى يبلى؛ وأن يكون دافعا للعجب؛ ومكتوبا في ترك التكلف؛ ومحمولا على التواضع؛ وقد قيل فيمن فعل ذلك منهم:


لبست الصوف مرقوعا وقلت أنا الصوفي ليس كما زعمت فما الصوفي إلا من تصفى
من الأيام ويحك لو عقلت



وقال الزين العراقي : فيه أفضلية ترقيع الثوب؛ وقد لبس المرقع غير واحد من الخلفاء الراشدين؛ كعمر؛ وعلي ؛ حال الخلافة؛ لكن إنما يشرع ذلك بقصد التقلل من الدنيا؛ وإيثار غيره على نفسه ؛ أما فعله بخلا على نفسه؛ أو غيره؛ فمذموم؛ لخبر: "إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده" ؛ وكذا ما يفعله حمقى الصوفية؛ وجهالهم؛ من تقطيع الثياب الجدد؛ ثم ترقيعها؛ ظنا أن هذا زي الصوفية؛ وهو غرور محرم؛ لأنه إضاعة مال؛ وثياب شهرة؛ ومقصود الحديث أن من أراد الارتقاء في درجات دار البقاء؛ خفف ظهره من الدنيا ؛ واقتصر منها على أقل ممكن.

(ت ك) ؛ في اللباس والرقاق؛ أخرجه الترمذي ؛ والحاكم معا؛ من حديث سعيد بن محمد الوراق ؛ عن صالح بن حسان ؛ عن عروة ؛ (عن عائشة ) ؛ قالت: جلست أبكي عند رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فقال: "ما يبكيك؟ إن أردت..." ؛ إلخ. قال الحاكم : صحيح؛ وشنع عليه الذهبي بأن الوراق عدم؛ انتهى؛ وذكر الترمذي في العلل أنه سأل عنه البخاري ؛ فقال: صالح بن حسان منكر الحديث؛ وصالح بن حسان الذي [ ص: 28 ] يروي عن ابن أبي ذئب ثقة؛ إلى هنا كلامه؛ وقال المنذري : رواه الترمذي والحاكم والبيهقي ؛ من رواية صالح بن حسان ؛ وهو منكر الحديث؛ وقال ابن حجر : تساهل الحاكم في تصحيحه؛ فإن صالحا ضعيف عندهم؛ انتهى؛ وكما لم يصب الحاكم في الحكم بتصحيحه؛ لم يصب ابن الجوزي في الحكم بوضعه؛ وإن صالحا ضعيف متروك؛ لكن لم يتهم بالكذب.




الخدمات العلمية